خاص العهد
صندوق النقد ليس جمعية خيرية وتجارب الدول تشهد
فاطمة سلامة
مخطِئ من يظن لبُرهة أنّ صندوق النقد الدولي يناقش ويفاوض الطرف اللبناني لمصلحة لبنان الخالصة. من يسترجع تاريخ الصندوق وحيثيات عمله وتجارب الدول معه يعِ تمامًا أنّ هذه المؤسسة الدولية تعمل لغاية في نفس يعقوب. وكما للحرب أسلحتها العسكرية، فإنّ الأسلحة تتنوّع في ميدان عمل الصندوق المذكور. يُعطي الصندوق بيده اليمنى ليأخذ باليُسرى ما يريده من تنازلات سياسية واجتماعية وما الى ما هنالك.
يكفي أن نستحضر الدول القيّمة على الصندوق لندرك حجم الوعي المطلوب للتفاوض. صحيح أنّ هذه المؤسسة تضم 189 عضواً فيها إلا أنّ خمس دول تُهيمن عليها على رأسها الولايات المتحدة الأميركية التي تملك 16.5% من مجمل حقوق التصويت، ما يمنحها وحدها حق "الفيتو"، وهنا بيت القصيد. تُعد واشنطن الآمر الناهي في سياسة الصندوق ما يجعلها تتحكّم بعمليات التفاوض لتجييرها وفقًا لمصلحتها. في قاموس هذه الدولة لا مكان للأعمال الخيرية والمساعدات المجانية. ثمّة مساعدات مشروطة لصالحها ومصلحتها. تستغل واشنطن أي ثغرة ونقطة ضعف للتسلل من خلال الصندوق وتحقيق ما عجزت عنه في السياسة والعسكر. ولها مع لبنان حساب طويل بعد أن عجزت عن تحقيق مكاسب فعلية لصالح أجندتها المعروفة.
وبالعودة الى تجارب الدول، يتبيّن أنّ وصفة صندوق النقد الدولي كانت بمثابة أداة مالية لرهن سيادة واقتصادات الدول وبثّ برامج اقتصادية لا تراعي أي قيمة للمواطن كزيادة الضرائب وما الى هنالك. تمامًا كما أنّ وصفة الصندوق وشمّاعة القرض الإنقاذي كانت بوابة لإخضاع الدول لكافة الشروط التي يُمليها الصندوق ولرؤيته في معالجة الأزمة في القطاع المصرفي والمالية العامة وديون الدولة السيادية. تحضر في هذا الصدد تجارب دول عدّة منها قبرص واليونان اللتان فرضت عليهما مشاريع تُسمى بالإنقاذية لكنها فرضت سياسات تقشفية أهلكت الاقتصاد المحلي وأدت الى كساد اقتصادي كبير، حيث بلغ الدين العام في اليونان 180 بالمئة من قيمة الناتج المحلي.
كما تحضر أيضًا تجربة الإكوادور الحديثة عام 2019 حيث تعرّضت هذه الدولة لشروط قاسية من الصندوق مقابل حصولها على قرض بنحو أربعة مليارات دولار. اشترط الصندوق على "كيتو" خفض الاستثمار، وطرد الموظّفين من القطاع العام ورفع الضرائب، فضلًا عن تقليص الموازنة، وبالنتيجة شهد هذا البلد تمدد الفقر من 50% إلى 70%، وتوسُّع رقعة البطالة بشكل كبير جدًا. ولا يغيب عن بال مراقبين شهيّة واشنطن المفتوحة حيال ثروات الإكوادور النفطية ما يُحتّم إغراقها بالديون أولًا لسرقة هذه الثروات لاحقًا. تجربة الأرجنتين حاضرة أيضًا حيث انخفضت قيمة العملة المحلية فيها بشكل حاد بعد اتفاقها مع الصندوق. وللدول العربية تجاربها مع هذه المؤسسة المالية أيضًا. في مصر انتشر الفقر كالنار في الهشيم بعد برامج الصندوق، وفي تونس والأردن فرضت ضرائب وبرامج أدّت الى تراجع الحد الأدنى للأجور.
لا فائدة من الاتفاق مع الصندوق
ولا يبدو لبنان بعيدًا عن الجو العام السائد للاتفاقات مع صندوق النقد الدولي. الاتفاق المبدئي الذي أعلن عنه صندوق النقد الدولي مع لبنان أمس الجمعة يُثير الكثير من علامات الاستفهام خصوصًا لجهة شروطه والإجراءات المطلوب من الدولة اللبنانية تنفيذها، فضلًا عن الفوائد المرجوّة من مبلغ 3 مليارات دولار فقط. وفي هذا السياق، يُسجّل الخبير الاقتصادي الدكتور إيلي يشوعي العديد من الملاحظات، فيشير بداية الى أنّ ما حصل لا يشبه الاتفاق بل التفاهم على إطار عمل وخطوط عريضة على بعض العناوين. ولا يعتقد يشوعي أن الاتفاق من الممكن أن يعود بفائدة على لبنان خصوصًا أنّه لا يزال اتفاقا على إطار عام للعمل وليس على التفاصيل.
الكابيتال كونترول يحمي المصارف
يستعرض يشوعي بعض العناوين العريضة والتي يُطلب من لبنان تنفيذها كإجراءات قبل حصوله على القرض، مسجّلًا العديد من الملاحظات في صددها:
*أولًا: إقرار الكابيتال كونترول في مجلس النواب. وفق يشوعي، من يطّلع على مضمون الكابيتال كونترول الحالي يقتنع تمامًا بأنه لا يناسب الوضع الحالي للبنان. ودائع الناس بموجب القانون لم تعد بأمان. في الوقت الحاضر، صحيح أننا نخضع لكابيتال كونترول "مقنّع" لكن يحق لكل مودع أن يتقدّم بشكوى الى المصرف، ما يُعطي المودع أملًا بالحصول على وديعته كاملة بالعملة التي أودعت فيها. وقد شهدنا بعض الحالات التي استرجعت فيها الودائع كاملة. أما القانون العتيد فينص صراحة على سقف للسحوبات الشهرية بالدولار وهي 1000 دولار فقط، بمعنى أنه لا يحق لأحد أن يطالب بأكثر من هذا السقف، واذا طلب المودع وديعته كاملة، حينها سيتذرع المصرف بأن القانون لا يسمح له بذلك، ما يعني حُكمًا أنّ ثمّة حماية للمصارف، وتعريض ودائع المودعين الى مخاطر جدية وحقيقية.
كما يُسجّل يشوعي ملاحظة إضافية. لم يعد مع هذا القانون حاكم واحد للبنك المركزي، بل لجنة حاكمة بعضوية حاكم مصرف لبنان، وزيرا المال والاقتصاد، ورئيس الحكومة. يتعيّن على اللجنة المذكورة وضع التنظيمات التطبيقية لقانون الكابيتال كونترول والسهر على تطبيقها، حيث تُرفع لها التقارير من قبل لجنة الرقابة على المصارف. وهنا عمدًا استخدموا مصطلح تنظيمات تطبيقية ولم يستخدموا مراسيم تطبيقية -يقول يشوعي- لأن ليس من صلاحية الحكومة وأعضاء الحكومة القيام بهذا الأمر، وهذا مس باستقلالية البنك المركزي. كما يؤخذ على القانون الجديد منع الحق بفتح الحسابات الجديدة، وهذا أمر غريب -وفق يشوعي- الذي يسأل ماذا يفعل من يريد تسجيل شركة جديدة؟.
وهنا يُشدّد يشوعي على أنّ قانون الكابيتال كونترول يشكّل حماية للمصارف ولا يضمن سلامة ودائع الناس. وعليه، لا أدري -يضيف يشوعي- ما اذا كان الصندوق موافقًا على القانون بهذا الشكل خصوصًا أنّه يتهرّب من مسألة التفتيش عن المال المفقود ويقول هذه ليست من مهمتي ما يثير الأسئلة حول هذه النقطة.
مقبلون على زيادة الضرائب وتخفيف الانفاق الاجتماعي
*ثانيًا: يشترط صندوق النقد الدولي إقرار موازنة عامة لا تحوي عجزًا كبيرًا. وبما أنه عمليًا لا يمكن الاستغناء عن الموظفين، فلا بد من زيادة الضرائب وتخفيض الانفاق ذا الطابع الاجتماعي، فهل نحن قادرون على تحمل هذين الأمرين؟ يسأل يشوعي.
*ثالثًا: يطلب الصندوق تعديل قانون السرية المصرية، وهو أمر لا داعيَ له، فالقانون الحالي جيد وبالإمكان تطبيقه بطريقة جيدة. وفق يشوعي، لا داعي لإعادة النظر بالقانون ولا جدوى من تعديله.
*رابعًا: يشترط الصندوق إعادة هيكلة القطاع المصرفي. ومن غير الواضح ما اذا كان عبر الرسملة، الدمج، التصفية، أو تطبيق القانون 2/67. وفق المتحدّث، لا تزال التفاصيل مبهمة، ومن الممكن أن تظهر الاختلافات في التفاصيل ويظهر افتراق بين الحكومة اللبنانية وصندوق النقد حيال هذه النقطة.
خامسًا: التدقيق الجنائي. وفق يشوعي، في الوقت الراهن لن يوصل التدقيق الجنائي الى نتيجة مع هكذا حاكم لمصرف لبنان. يسأل: هل يفتح أحد مجالًا لشركة تدقيق مالي جنائي أن تتهمه، وهو المسؤول (الحاكم) عن تبخُّر وفقدان 70 مليار دولار؟!. كيف سيسهّل مهمة أي شركة وهو المعني والمتهم؟. ولا ننسى أن جمعية المصارف رافضة لخطة التعافي المختزلة بتوزيع الخسائر.
3 مليارات دولار لا تساوي شيئًا
مقابل كل هذه الإجراءات والشروط وفي حال أجريت على "ذوق" و"خاطر" صندوق النقد الدولي، ثمّة قرض بقيمة 3 مليارات دولار فقط. وفق يشوعي، ماذا سيقدّم هذا القرض اذا كانت قيمة الانفاق على الدعم في لبنان بلغت 15 مليار دولار؟! يشدّد الخبير الاقتصادي على أنّ هذا المبلغ لا يساوي شيئًا، فضلًا عن أن الجهة التي ستتلقّف الأموال هي نفسها من سرقت عشرات مليارات الدولارات من البلد.
أمام لبنان بدائل عدّة عن صندوق النقد الدولي
يُشدّد يشوعي على أنّ أمام لبنان بدائل عدّة عن صندوق النقد الدولي. وفق حساباته، كلمة السر تبدأ من استثمار موجودات الدولة، كما يجب للخروج من الحالة الافلاسية.
لا بد من استثمار موجودات القطاع العام عبر تلزيمات لا تتم بالتراضي. كما أنّ
أهم حل -برأيه- هو إعادة الثقة عبر تعيين حاكم جديد للبنك المركزي يوحي بالثقة وليس حاكمًا منزلًا بـ"الباراشوت". لا بد من تعيين حاكم لم يلوث بالقطاع المصرفي والبنك المركزي، مستقل، صناعة لبنانية لا مستوردة.
وفي الختام، يكرّر يشوعي أنّ ثمّة خيارات عدّة لحصد الإيرادات، ولكن المهم النية والعمل لمصلحة لبنان، وتعيين حاكم يسير بالتدقيق الجنائي بطريقة جدية لكشف مصير الـ70 مليار دولار واستردادها.