خاص العهد
40 عاماً قلبت القهر الى فخر
داني الأمين
قبل 40 عاماً، كان الطفل علي الذي لم يبلغ الثماني سنوات حينها، يلعب مع رفاق له في أحد الحقول القريبة من منزله المشرف على القرى الحدودية مع فلسطين المحتلة، عندما سمع أصوات طائرات حربية، شوّهت بدخانها صفاء سماء بلدته. لكن سرعان ما حدث شيء غريب؛ بدأت السماء تمطر أوراقًا بيضاء، لم تكن سوى رسائل تهديد من جيش العدو الاسرائيلي، أفرغتها الطائرات فوق الحقول، لتعكر سكينة الأهالي.
التقط علي احداها، وقرأها جيداً، كانت تطلب من المدنيين رفع الرايات البيضاء على أسطح المنازل، وفيها من التهديد والوعيد لكل من يفكر في مواجهة الاحتلال أو مناصرة الفدائيين. كانت الأوراق ممهورة بتوقيع "أوري لوبراني"، الذي كان حاكمًا لأنشطة كيان العدو في لبنان.
شاهد علي حينها حالة الارتباك والخوف على عدد من أقربائه "بعضهم حرق ما لديه من صحف ومجلاّت، وأحدهم رمى بندقية له في بئر عميقة، أما والدتي فقد كان الخوف بادياً على وجهها". مضت أيام، وشاهد علي مرور أول رتل من دبابات العدو، وكان بعض جنود العدو يعبرون على الطريق سيرًاً على الأقدام، وهم مدججون بالأسلحة المختلفة. يذكر علي أن "أشهرًا من الرعب رافقت طفولتي، من بينها عندما حضر عشرات الجنود وطوقوا منزل أحد الجيران، وعمدوا الى تفجيره دون أن يحذرونا من خطر الانفجار".
لكن المشهد تبدّل فيما بعد. عام 1985، سمع علي صوت انفجار كبير، تلته أصوات الرصاص، لمدة تزيد على نصف ساعة. اختبأ الأهالي حينها للاحتماء من قصف اسرائيلي محتمل، ليتبين لاحقًا أن ما سمعوه ناجم عن عملية بطولية، هي أول عملية نوعية للمقاومة في وادي الحجير، كانت قبل الانسحاب الاسرائيلي الأول الى ما يعرف بالشريط الحدودي.
كان التاريخ 27 أيار، يوم قرر الشهيد سمير مطّوط قيادة مجموعة من المقاومين الى أحد مداخل وادي السلوقي- الحجير، من جهة بلدة شقراء: "كان المكان على منعطف خطير، يلزم آليات العدو بتخفيف سيرها"، يقول أحد المشاركين في العملية، ويشير الى أن الهدف هو زراعة عبوة كبيرة كنا قد أعددناها مسبقًا بأيدينا، وكانت مهمة تفجيرها للشهيدين أمثل حكيم (من شقرا) وعباس طالب (من خربة سلم). لكن بعد التفجير اضطر الشهيدان للبقاء في الجهة المقابلة لمكان العملية، قرب قلعة دوبيه الأثرية، ما جعلهما عرضة لهجوم رجال العدو والاشتباك معهم طيلة ساعات.
يؤكد أبناء بلدة حولا المجاورة أن العملية أدت إلى مقتل أكثر من 12 جندياً إسرائيليًا، واستشهاد المقاومين حكيم وطالب، اللذين كان لاستشهادهما الأثر الكبير على أبناء المنطقة، فهي العملية الأولى في المنطقة، وهذا ساهم في زيادة حماسة الشباب للانخراط في العمل الجهادي.
وبعد هذه العملية بعدة أيام تم تنفيذ عملية على طريق عام بلدة شقرا أدت الى انقلاب آلية عسكرية وقتل وجرح من فيها، ثم عملية أخرى على حاجز للعملاء داخل البلدة نفسها، التي تظاهر فيها عدد من نساء البلدة ضد العملاء مطالبات جهارة بانسحاب العدو. كل هذه الاحداث المتلاحقة أدت لاحقاً الى انسحاب العدو من عدة قرى وصولاً الى ما كان يعرف بـ "الحزام الأمني" سابقاً.
بعد هذه العمليات العسكرية وما تلاها، لم يعد علي يشاهد رجال العدو إلا على شاشات التلفزة، فهم باتوا غير قادرين على الظهور العلني، حتى أنه لم يعد في استطاعتهم عبور الطرقات العامة للقرى الحدودية، إلاّ خلف سواتر دباباتهم الحديدية، وجلّ ما يفعلونه هو الانتقام من المدنيين العزّل، من خلال مدافعهم المتمركزة على المواقع. وكان لعلي نصيب من هذه الاعتداءات، عندما قصف منزله في العام 1988، وشاهد جسدي والدته وشقيقته الممزقين بعيد استشهادهما.
سنوات طويلة رافقت علي قبل أن يحقق حلمه بالانتقام من العدو، ودّع خلالها شهداء كثرًا من بينهم الشهيد محمد نصار، الذي استشهد على طريق عام بلدة حولا، أثناء تنفيذه لعملية بطولية، إلى أن حلّ التحرير. يومها، تقدم علي مع حشود الأهالي والمقاومين من جهة بلدة شقرا الى بلدة حولا المحررة، وتوقفوا لبرهة في المنزلق الذي فجّر فيه المقاومون عبوتهم الناسفة، قرأ علي ورفاقه الفاتحة لأرواح الشهداء، وأكملوا طريقهم.
في بلدة حولا، شاهد علي امرأة تدعى فاطمة، أنهكها العمر وظلم العدوّ. كانت تبحث بين الحشود على ابن لها، تبين أنه غادرها منذ 15 سنة وانضمّ الى صفوف المقاومين. ويبدو أن ابنها كان من أوائل الواصلين الى بلدته حولا، لكنه لم يترك عمله الجهادي لملاقاة أمه، بل أكمل عمله لساعات طويلة، الى أن كانت لحظة خروج والدته من منزلها الى ساحة البلدة، بعد أشهر طويلة من ابتعادها عن أعين العدو وعملائه تجنباً للانتقام منها، معبّرة عن سعادتها بالتحرير.
فاطمة كانت تمشي بسرعة، تنظر شمالاً ويميناً علّها ترى طفلها الذي غادرها قبل أن يصبح مقاوماً شاباً. يومها كان الابن قريباً من المكان، مشغولاً في عمله، عندما وقع نظره على والدته القادمة من بعيد ركض نحوها، وركضت هي أيضاً، فكان المشهد عظيماً ونبيلاً أدمع عيون الكثيرين، من الذين عرفوا قصة الولد وأمّه. دموع فرح فاطمة، كانت كافية بالنسبة لعليّ للاحساس بالانتقام من العدو وعملائه. يقول: "كان لقاء الأم بولدها المقاوم، هو المشهد الذي كنت أرغب في مشاهدته بعد أن ودعت أمي بعيد استشهادها، لقد انتقمت المقاومة لي ولأسرتي وأعادت لنا مجدنا، وجعلت أطفالي اليوم يعودون بعدي الى الحقول، يلعبون بهدوء بعيداً عن أي خوف وقلق".