خاص العهد
الأسرة أولًا..
فاطمة سلامة
كثيرًا ما يُقال إنّ فلانًا أو فلانة تفوّقا في الدراسة أو العمل. يُنظر الى هذا الأمر كإنجاز يطبع المسيرة الحياتية لأي فرد. يُقال إنّ شخصًا ما تمكّن من إتمام الدراسات العليا وحصد أعلى النتائج، أو تخطّى امتحانًا "صعبًا" للدخول الى وظيفة ما. كما يُقال إنّه نجح في عمله وأبدع، أو تمكّن من تكوين شبكة علاقات ناجحة، وإدارة مشروع ما بطريقة احترافية. الحقيقة أنّه في هذا السياق يُقال الكثير والكثير، لكن قلّة هي من تشير للنجاح في بناء أسرة سليمة. يُعتبر هذا الأمر لدى كثيرين وكأنه خارج الحسابات. بالأصل، قد لا يتم الالتفات إليه مع العلم أنّ المجتمع السليم يكمن في بناء أسرة سليمة، والنجاح في إدارة مشروع الحياة الأسرية سينعكس إيجابًا على كافة أفراد الأسرة ومعها المجتمع.
الأسرة وعلى أهميتها كخليّة أولى يتكوّن منها المجتمع ومدرسة أولى لأي فرد ومؤسسة اجتماعية فاعلة في كل زمان ومكان "حوربت" للأسف في السنوات الماضية. كان تفكيك الأسر في مجتمعاتنا واحدًا من الأهداف التي عمل عليها الغرب الذي يُعاني أصلًا من هذه الآفة. حتى أنّ الأمم المتحدّة التي تتغنّى بحقوق الإنسان عملت على هدم الأسرة، وهذا ما وثّقته أطروحة دكتوراه للباحثة المصرية الدكتورة كاميليا حلمي تحت عنوان "المواثيق الدولية وأثرها في هدم الأسرة". الباحثة التي كانت تعمل في مكاتب الأمم المتحدة أجرت دراسة علمية لنصوص أهم المواثيق الدولية التي تشكّل "منظومة القانون الدولي لحقوق الإنسان" لتكتشف أنّ تطبيق ما تحتويه تلك المواثيق يؤدي إلى تدمير مؤسسة الأسرة واستئصالها من جذورها بصورةٍ كاملة. وكشفت الدراسة عن الوسائل والآليات المختلفة التي تستخدمها الأمم المتحدة لتمرير وتطبيق سياساتها في هدم الأسرة.
وعليه، منذ سنوات ونحن نسمع بشعارات و"سيمفونيات" تحرّض على عدم تكوين أسرة. الإعلام لعب دورًا لا بأس به في هذا السياق، فقُدّمت الأسرة في الدراما والبرامج ومنها اللبنانية بطريقة مشوّهة. مشاكل وتفكُّك أسري وإدمان وأمور لا أخلاقية وامرأة ترفض فكرة تكوين أسرة لـ"تحقيق ذاتها" وكأنّ بناء الأسرة سيقف حائلًا أمام هذا الأمر! وغير ذلك الكثير من المفاهيم التي حاول الإعلام الترويج لها في سياق غرس ثقافي ينال من أهمية الأسرة ومكانتها في المجتمع. وعلى النقيض، نرى أنّ قلّة من المؤسسات الإعلامية ـ جُلها إن لم نقل جميعها ينتمي الى الإعلام الملتزم ــ قاربت قضية الأسرة بطريقة مختلفة وحثّت على بناء أسرة سليمة.
ونظرًا لأهمية الأسر في حياة المجتمعات، كان حزب الله سبّاقًا لتخصيص أسبوع الأسرة المتزامن مع الذكرى السنوية لزواج النورين (الإمام علي (ع) والسيدة فاطمة الزهراء (ع)) انطلاقًا من دعوة الأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله للاهتمام بواقع الأسرة في مجتمعاتنا لتحصينها من كل ما يعكّر مسارها الطبيعي. وفي هذا السياق، تشدّد مديرة "مركز سكن للإرشاد الأسري" والمختصة في شؤون الأسرة الأستاذة أميرة برغل على أنّ الأسرة هي المؤسسة الأساسية التي يرتكز عليها "حفظ ديمومة المجتمع وتراثه الحضاري والقيمي عبر الإنجاب والتربية وحسن التنشئة الاجتماعية والأخلاقية والوطنية".
وهنا تشدّد برغل على أنّ الإسلام حثّ كثيرًا على الزواج باعتباره سُنّة تكوينية وشرعية، اذ لا يمكن توفر الظروف السليمة لنمو الأفراد واستقرار المجتمعات إلا من خلالها. ومن هنا نفهم ما يحصل في الغرب. الأخير يذهب ــ وفق برغل ــ إلى موت بيولوجي وتسافل أخلاقي ليس له مثيل وذلك بسبب تبنيه لأفكار فلسفية واجتماعية متنكّرة لكل القيم الإلهية والأخلاقية وممعنة في الليبرالية المتطرفة الهادفة لأكبر قدر من اللذّة المؤقتة والمصالح الاقتصادية المتوحشة، وقد أنذر الكثير من المفكرين الغربيين بالموت القادم لمجتمعاتهم لا محالة.
وفي حديث لموقع "العهد" الإخباري، تشدّد برغل على أنّ أكثر المخاطر التي تهدّد الأسرة اليوم تكمن:
أولاً: في الثقافة الليبرالية التي عزّزت النزعة الفردية والمادية لدى الشباب والشابات وزيّنت لهم ثقافة الراحة وحب الاستهلاك.
ثانيًا: في ضيق الأوضاع الاقتصادية وتراجع الأخلاقيات الاجتماعية.
ثالثًا: في انتشار وسهولة سبل الانحراف والعلاقات غير الشرعية.
وترى برغل أنّ وجود هذه الأسباب الثلاثة التي ذُكرت مع خلو البرامج التربوية والإعلامية من التأهيل الجدّي والمدروس للأجيال الصاعدة من أجل النجاح في مهامهم الزوجية والوالدية المستقبلية في أسرهم أدّت وتؤدي الى مخاطر حقيقية تهدّد الأسرة في عصرنا الحاضر إن على صعيد سلامة التأسيس أو إمكانية النجاح والاستمرارية. وفق برغل، يلعب الإعلام دورًا أساسيًا ومهمًا جدًا في تعريف الشباب بأهمية الأسرة وتوجيههم الى كيفية بناء أسرة سليمة، فكلنا يعرف أن الأفكار والتوجهات لدى الناشئة تتشكّل بمعظمها من خلال المشاهد التمثيلية والأعمال الفنية أكثر من أي شيء آخر، فكيف إذا كان الإعلام عوضًا عن تقديم البرامج والأعمال الفنية الداعمة لفكرة الأسرة يقوم بالعكس تمامًا عبر الدعوة للانفلات من القيم وتبرير الانفلات من المسؤوليات العائلية تحت دعاوى الحرية الشخصية وتحقيق الذات والتفتيش عن مصادر "المتعة" خارج إطار العائلة؟
الأسرة هي المدخل الرئيس الذي يمكّن المرأة من تحقيق مكانتها
وفي سياق حديثها، تؤكّد برغل أنّ "تصوير الأسرة على أنها سجن يحرم المرأة من تحقيق ذاتها في المجتمع واعتبار العمل الوظيفي مصدرًا أساسيًا لقوة المرأة واقتدارها والتنكر لحاجات المرأة الطبيعية ومكاسبها ومكاسب المجتمع من الاستقرار الأسري، والتغافل عن عظيم دورها الاجتماعي في تربية الناشئة أوهم الكثيرين من النساء أن الأسرة تقف عائقًا أمام وصولهن لأهدافهن. وهنا، تشدّد برغل على أنّ الحقيقة مخالفة لهذه القناعة فالأسرة إذا تأسّست على أساس سليم هي وحدها المدخل الرئيس الذي يمكّن المرأة من تحقيق توازنها وسعادتها ومكانتها العالية في المجتمع من دون أن يحرمها من حق التعلم والعمل والمشاركة في الأنشطة الاجتماعية.
تحصين الأسر
أما عن كيفية تحصين أسرنا وسط كل ما تتعرّض له، فترى برغل أنّ ثمّة مسارًا وقائيًّا وآخر علاجيًّا. في المسار الوقائي لا بد من العمل على عدة أصعدة:
أولاً: توعية الجيل الجديد على أهمية قيام المجتمع على محورية الأسرة وعلى ضرورة إعداد أنفسهم فكريًا ومهاريًا للنجاح في هذه المهمة.
ثانيًا: تأسيس الجمعيات الداعمة اقتصاديًا لتسهيل الزواج البسيط والميسر في مقتبل العمر.
ثالثًا: توعية الشباب على كيفية التحكم في عواطفهم وحماية أنفسهم من انجذاب خاطئ يؤدي بهم الى اختيار شريك غير مناسب.
رابعًا: توعية الشباب على معرفة أسس الاختيار السليم للشريك المناسب وعلى الحقوق والواجبات المترتبة على الشريكين بعد الزواج وعلى إدراك الفروقات بين الجنسين ومهارات التواصل الناجح بينهما، على أن تتحمّل المؤسسات الإعلامية والتربوية والمراكز الإرشادية دورًا أساسيًا في هذه التوعية.
أما في المسار العلاجي، فلا بد من توفير المراكز الإرشادية التخصصية القادرة على توجيه النصح ومساندة الزوجين عند أول بروز علائم الإخفاق في علاقتهما. كما لا بد من تعيين مكاتب في المحاكم لمحاولة إصلاح ذات البين قبل الطلاق ولضمان آليات التدخل العادل عند حصول شقاق يؤدي الى الطلاق، تختم برغل حديثها.