خاص العهد
"الكحالة" واليد الخفيّة
فاطمة سلامة
يقضي الطالب في كلية الإعلام ساعات وساعات من وقته للاستماع الى شرح مفصّل عن "أخلاقيات مهنة الإعلام". يُزوّده المُحاضِر بأهمّ القيم والمعايير التي يجب الالتفات لها عند ممارسة المهنة على الأرض. تحضر في هذا الإطار الكثير من المبادئ من قبيل الصدق، الشفافية، النزاهة، الأمانة، الدقة والموضوعية وما الى هنالك...
إلا أنّ متابعة المسار الذي تسير عليه المؤسسات الإعلامية اللبنانية يُبيّن أنّ غالبية العاملين في هذا القطاع لم "تقطع" أمام نظرهم تلك المادة الدراسية. جُلّهم، لا يعرف عن تلك الأخلاقيات شيئًا، أو بالأحرى يعرف ويتجاهل. الأولوية بنظره لخُطة المؤسسة التي ينتمي إليها. لا يجد حرجًا في سبيل ذلك في فعل أي شيء، حتى ولو وصلت الأمور الى تبديل "جلده" بالمعنى المجازي للكلمة. هذا الأمر يبدو جليًا في أي حدث من نوع فتنوي أو طائفي. تُسارع تلك القنوات لاقتناص الفرصة وفق خطّة معدّة سلفًا؛ الهدف الأساس زرع الفتنة، أما الأدوات فكلها مباحة في سبيل تحقيق الهدف من "كذب" و"افتراء" و"تجييش" وما الى هنالك من مصطلحات تناقض أي معنى للأخلاقيات المهنية.
في حادثة الكحالة (9/8/2023) ــ كما في حوادث سابقة ــ كانت صورة الإعلام المذكور المأجور واضحة، لا تحتاج الى من يقرأ بين السطور ليكتشفها. قناة "MTV" على سبيل المثال وكعادتها قدّمت نموذج الإعلام الراقص على حبال الفتنة أو بالأحرى الصانع للفتنة. ما إن اشتمّت رائحة انقلاب شاحنة حتى جنّدت كل إمكانياتها لتغطية الحدث. بدأت بتقديم كل صُنوف التحريض والتجييش وفتحت الهواء لثلاثة مراسلين على الأرض ما انفكّوا يُحرّضون الأهالي بالمباشر ويصبّون الزيت على النار. وسُرعان ما أوعزت القناة لمراسليها للربط بين حادثة الكحالة التي انقلبت فيها شاحنة لحزب الله، وحادثة عين إبل التي توفي فيها مسؤول في حزب "القوات" للإيحاء بأنه اختُطف وجرى اغتياله. ولم يتوان مراسلو القناة عن تحريض أهالي الكحالة لقطع الطريق ومنع الجيش من سحب الشاحنة أو أخذ حمولتها.
قنوات أخرى لم تكن أفضل حالًا من "MTV" حيث عمدت الى أسلوب "التجييش" والتحريض وإن كان بطريقة غير مباشرة، وفتحت الهواء لكافة أبواق الفتنة والطائفية في سياق مخطّط مدروس يُعيد لبنان الى زمن الحرب الأهلية، وكأنّ المطلوب أن يتحوّل كوع "الكحالة" الى "عين رمانة" ثانية. رئيس "حركة الشعب" النائب السابق نجاح واكيم يصف الأداء الإعلامي بـ"المُرعب". كل ما حدث أمس الأربعاء يضعه بـ"كفة" والتغطية الإعلامية "الفظيعة" كما يصفها في "كفة أخرى". يأسف واكيم؛ لو أنّ لدينا القليل من هيبة الدولة لما لعب هذا الإعلام الدور الخطير الذي لعبه في حادثة "الكحالة" والذي كان أخطر من كل ما شهدناه (أمس) من أحداث على الأرض. يقول: "كنت أتابع بألم ليس فقط على الضحايا بل على عمليات التجييش الغرائزية التي زكاها البعض بخفّة وعدم إحساس بالمسؤولية لتحقيق الأهداف التي توخّاها مدبّر ومفتعل الحوادث والتي تقود لبنان باتجاه الفوضى الدموية".
في حديث لموقع "العهد" الإخباري، يقرأ واكيم في حادثة "الكحالة"، فيلفت الى أنها تُذكّرنا بأحداث مماثلة وقعت من الشمال الى الجنوب. برأيه، لا يمكن عزلها عن حوادث أخرى فهي تأتي في السياق نفسه الذي وقعت فيه أحداث "القرنة السوداء"، "عين الحلوة"، و"كوع الكحالة". وفق قناعاته، ستتكرّر هذه الحوادث بعيدًا عن تقاذف المسؤوليات، لأنّ ثمّة جهة واحدة تُحرّك كل هذه الأحداث وهي يد الولايات المتحدة الأميركية.
تحضر في بال واكيم سيرة "الحرب الأهلية" المقيتة. يعود بالذاكرة الى العقود الماضية، حادثة الكحالة 2023 تذكّرنا بمرحلة ما قبل عام 1975 أي ما قبل اندلاع الحرب الأهلية. حينها كانت تقع أحداث مماثلة تمامًا كحادثة "كوع الكحالة" حيث وقعت مجزرة. وبغض النظر عن تقاذف المسؤوليات حينها، إلا أن تلك الواقعة كانت جزءًا من مسلسل لإعداد المناخ العام نحو الفوضى الدموية التي عشناها على مدى 15 عامًا (1975- 1990). ثمّة الكثير من الأحداث افتُعلت وعملت على تأجيج العصبيات، وتغييب العقل وذهب ضحيتها نحو 150 ألف شهيد، وتهجير 800 ألف أو مليون شخص، فضلًا عن خراب ودمار.
برأي واكيم، بعد كل هذه الخسائر التي وقعت اكتشف البعض بعبقريته أن يدًا خارجية هي يد الولايات المتحدة الأميركية أشعلت فتيل الحرب الأهلية. وهنا يوجّه سؤالًا لكل لبناني: "هل من الضروري أن يقع هذه المرة نحو 150 ألف شهيد ويُدمّر بلدنا ويتهجّر أهلنا لنكتشف دور الولايات المتحدة الأميركية في كل ما يجري؟!". يُذكّر واكيم أنّه في السنوات الأخيرة كان يحذّر بشكل شبه يومي أنّ لبنان يُدفع نحو فوضى دموية، لم تكن المسألة "تبصير" بل قراءة بحقيقة السياسة الأميركية التي تنفّذها في لبنان عبر أدواتها في كل مكان إقليميين وغير إقليميين.
ويوجّه واكيم نداءً للجميع ــ لمناسبة الحادثة الأليمة جدًا ــ : "يا إخوان فليرتفع صوت العقل ولغة العقل لنعرف أن من يدبّر الأحداث هي جهة واحدة لن يُستثنى أحد من شرورها. جميعنا، أهلنا، أولادنا وشبابنا سيكونون ضحية المؤامرة الأميركية وجهلنا. فلنحبط المؤامرة بالوعي لا بالجهل، بالعقل لا بالغرائز". ويضيف واكيم "ليتأكّد الجميع أنّ أحداث "عين الحلوة"، "القرنة السوداء" و"الكحالة" وغيرها ليست لهذا الفريق أو ذاك. في كل هذه الأحداث هناك يد واحدة تُحرّك هي الولايات المتحدة الأميركية، والمُستهدف لبنان بأكمله وليست فئة معينة. اختلافنا هو على أمور بسيطة، وعليه، علينا أن نتوحد في مواجهة "حمّام الدم" الذي تدفعنا اليه الولايات المتحدة".
يؤكّد واكيم أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تعدم وسيلة الا واستخدمتها لتأزيم الوضع في لبنان، وهي لا تزال تعمل اليوم مستخدمة الوسيلة الأخطر في محاولة لضرب المقاومة وهي إشعال نار الفتنة الآنية في الداخل. وهنا يُطالب واكيم كل القوى الوطنية بمختلف اتجاهاتها التوحُد لمواجهة هذه الفتنة التي تقف وراءها واشنطن سواء كانت حادثة الأمس مدبّرة أم لا. وفق واكيم، لنفترض أنّ حادثة الأربعاء وقعت صدفة، فإنّ استغلالها بعملية التأجيج ليست بريئة عدا عن أن أميركا لديها أدوات كثيرة بالداخل والخارج. وفي هذا السياق، يسأل واكيم عن مغزى توقيت طلب دول الخليج من رعاياها مغادرة لبنان ــ وكل هذه الدول الخليجية الست ليس لديها 6 أو 7 رعايا في لبنان ــ، ويلفت الى أنّ هذا الطلب كان جزءًا من خطة التجييش.
وفيما يُوافق واكيم القول إنّ هناك خطة مدروسة لاقتناص أي فرصة وتجييرها بسياق تطبيق الهدف الأميركي المتمثّل بـ"حمام الدم" في لبنان، يُناشد الشعب اللبناني بمختلف انتماءاته السياسية والحزبية والمناطقية التحلّي بالعقل، والتفكير قليلًا بعيدًا عن الانسياق وراء الغرائز لأن الجميع سيكون ضحيّة، يختم واكيم نداءه.