معركة أولي البأس

مقالات مختارة

المجلس الوطنيّ للبحوث: نأكل ونسبح في بحر من البلاستيك
01/02/2023

المجلس الوطنيّ للبحوث: نأكل ونسبح في بحر من البلاستيك

صحيفة الأخبار - فؤاد بزي

لمعرفة مدى تلوّث المياه اللبنانية، وقاع البحر بـ«بقايا البلاستيك» بغية تسليط الضوء على «واحدة من أخطر الملوّثات التي تواجه الكوكب»، قامت مجموعة من الباحثين في المركز الوطني للبحوث العلمية بإجراء دراستين رياديتين، تُعدّان من أُوليات الدراسات على منطقة شرق البحر المتوسط، عبر مسح 10 نقاط بحرية يُراوح عمقها بين مترين و120 متراً، بالإضافة إلى 22 موقعاً مائياً لرسم خريطة توضح نقاط التلوّث بأشكال البلاستيك على طول الشاطئ اللبناني

يظنّ المرء أنّ البلاستيك يتكوّم على شكل جبال من النفايات، بينما هو يحوّل مياه المحيطات والبحار إلى ما يشبه «الحساء البلاستيكي» المنتشر على مساحات تتخطى آلاف الكيلومترات المربّعة، ويتخطى في تأثيره المباشر سلامة المياه فقط، ليؤثّر أيضاً على سلامة الغذاء، وبالتالي صحة الإنسان.

650 مليار قطعة بلاستيك تسبح في حوض البحر الأبيض المتوسط، يقارب وزنها 660 طناً، وتشكّل قطع «البلاستيك المجهري» أكثر من 80% منها. لبنان، بموقعه السّاحلي شرق المتوسط، ومدنه الرئيسية المنتشرة على شاطئ البحر، حيث يعيش 64% من سكانه، والعاصمة بيروت إحدى هذه المدن، يطلق كميّات ضخمة من النفايات في الطبيعة من دون معالجة، بكلّ أنواعها، المنزلية، الصناعية، الزراعية، الطبية وبقايا المسالخ. تشكّل نسبة البلاستيك 13% من هذه النفايات، و50% منها تأتي من المواد المستخدمة في التغليف، أي ما يمكن الاستغناء عنه. وتزيد الأنشطة البشرية على شواطئ المتوسّط من ضغط التلوّث على البحر، سيّما في الصيف، إذ ترتفع حينها كميّة الملوّثات بنسبة 40%، مع ارتفاع أعداد السّياح، خاصة أنّ الدول المتوسطية تستقطب سنوياً ثلث السّياحة العالمية.

وهذه المواد البلاستيكية، «الخاملة كيميائياً»، تتسبّب بكوارث على المستوى البيئي والصحي، لصعوبة إعادة تدويرها من جهة، وتفككها في بعض الأحيان لإنتاج ما هو أكثر سميّة من جهة ثانية، أي «البلاستيك المجهري» الذي يدخل أجسادنا بطرق مختلفة.

تكوّن «البلاستيك المجهري»

في لبنان، ونتيجةً لـ«الاستغلال الكبير للأراضي السّاحلية، وغياب أو تعطيل محطات إعادة تكرير المياه، وانتشار المكبّات العشوائية على طول ساحله»، تصل قطع «البلاستيك المجهري» إلى البحر بطريقتين، الأولى من المكبّات المحاذية للشواطئ، حيث تدخل قطع البلاستيك الكبيرة إلى الماء، الأمر الذي يعرّضها لعمليات كيميائية تؤدّي إلى تفكّكها إلى قطع متناهية الصغر (أقل من 5 ملم). أما الطريقة الثانية لوصول «البلاستيك المجهري» إلى البحر، وهي الأكثر إثارةً للجدل، فتتعلّق بمياه المجاري غير المعالَجة، التي تحتوي موادَّ بلاستيكية مجهرية على شكل نسيج، ناتجة عن عمليات الغسيل المنزلي للملابس، التي تتفكّك خيطانها الصناعية جرّاء عمليات التنظيف، فتدخل إلى المياه على شكل أنسجة متناهية الصغر في الحجم، إنّما ذات تأثير مدمّر على الحياة البحرية، ولاحقاً الإنسانية. وعلى طول الشاطئ اللبناني، هناك 53 مصباً لأنهر ومياه صرف صحي تُدخل الملوّثات المختلفة إلى البحر.

أنواع «البلاستيك المجهري»

يتغيّر تأثير قطع «البلاستيك المجهري» على مياه البحر، والحياة فيه، بحسب حجمها وكثافتها، إذ تنقسم إلى جزءَين أيضاً، الأول يطفو ولا يغرق، لأنّ كثافته أقلّ من كثافة ماء البحر، ويشكل خطراً كبيراً على الحياة البحرية لأنّه يدخل في جسم الأسماك التي تستهلكها ظناً منها بأنّها قابلة للأكل، وتشبه فرائسها الطبيعية. وعلى إثر صيدها واستهلاك لحوم هذه الأسماك الآكلة للبلاستيك، يدخل جسم الإنسان كميات من «البلاستيك المجهري»، وتتراكم فيه مسبّبةً أمراضاً خطيرة. أمّا الجزء الثاني، الأثقل وزناً من «البلاستيك المجهري»، فيغرق محوّلاً قاع البحر إلى «رواسب بلاستيكية».

البلاستيك العائم

وعلى إثر قيام فرق البحث العلمي بمعاينة 22 موقعاً بحرياً للتأكّد من كميّة «البلاستيك المجهري» في المياه، وجد في عيّناتها أكثر من 23 ألف قطعة، بتركيز يساوي 12.1 قطعة في كلّ متر مكعّب من المياه، وهذه الأرقام أعلى بمرّتين من تلك المسجّلة في دراسة سابقة عام 2018، وأكبر من معدّلات التلوث في مختلف أحواض البحر المتوسط شرقاً أو غرباً. وما يزيد من تلوّث المنطقة المحيطة بلبنان هو «تيّارات البحر المتوسط» التي تتحرّك من الغرب إلى الشرق، وبالتالي قد تحمل معها الملوّثات من الأحواض المختلفة إلى منطقتنا.
ولكن ما سبق، لا يرفع مسؤولية لبنان عن تلويث مياه البحر بالبلاستيك، فالأرقام تشير إلى تركيزٍ عالٍ لـ«البلاستيك المجهري» في مناطق صبّ المجارير، أو حيث تتواجد المطامر. فتناهز كميّة البلاستيك في منطقة المنارة الـ5000 قطعة، وفي منطقة الكوستابرافا، حيث مطمر النفايات، فيصل عددها إلى 7200 قطعة. ويُذكر أنّ التلوث بقطع البلاستيك الكبيرة كان واضحاً في منطقة المنارة، والكوستابرافا، حيث تتواجد هذه الملوّثات بشكل كبير قرب الشواطئ، بتركيز يساوي 1.8 قطعة لكل متر مكعّب من المياه، بينما تغيب بشكل شبه تام كلّما ابتعدنا أكثر إلى داخل البحر. أمّا المناطق الأقلّ تلوّثاً بهذا النوع من البلاستيك فهي التي لا تحتوي تجمعات سكانية كبيرة، مثل منطقة صور، سيّما المحميّة البحريّة فيها.

وفي قاع البحر

بالإضافة إلى المياه، يتراكم «البلاستيك المجهري» في قاع البحر، على شكل رواسب، ويسجّل لبنان أعلى معدّل رواسب بلاستيكية في حوض المتوسط يقارب الـ1363 قطعة لكل كيلوغرام من الرواسب.

بالعودة إلى نتائج الدراسة فتتشابه الثانية الخاصة بالرواسب البلاستيكية مع الأولى الخاصة بالبلاستيك العائم، إذ تشير إلى تلوّثٍ عالٍ في الكوستابرافا، حيث تصل كمية قطع «البلاستيك المجهري» في بعض المناطق إلى 4500 قطعة لكل كيلوغرام من الرواسب، بأشكال متنوعة، تشكّل الأنسجة 47% منها، والأغشية 32%، والقطع 17%، والخرز3%، بالإضافة إلى التنوّع في الشكل، فهناك تنوّع في التركيبة الكيميائية للبلاستيك. وتشير الدراسة إلى وجود القطع البلاستيكية بكميات كبيرة قرب الشواطئ فقط، فيما تشكل الأغشية والأنسجة غالبية «البلاستيك المجهري» الموجود في الرواسب البحرية الموجودة في أعماق بعيدة.

بالمقارنة بين المناطق اللبنانية في ما بينها، تتصدّر الترتيب مناطق الكوستابرافا وبرج حمود والرملة البيضاء، مع أعلى معدّلات تراكم لـ«البلاستيك المجهري» في قاع البحر مقابلها، بأرقام تناهز 3900 قطعة لكل كيلوغرام. وتعيد الدراسة السّبب في ذلك إلى وجود ضغط سكاني وصناعي كبيرَيْن في هذه المناطق، بالإضافة إلى وجود مكبّات النفايات العشوائية، وصبّ المياه المبتذلة في البحر من دون أيّ معالجة. أمّا في «المناطق المحمية» مثل صور التي يغيب فيها النشاط الصناعي الملوّث، بالإضافة إلى تشغيل معامل معالجة مياه الصرف الصحي فيها، فتصبح المنطقة بالتالي من الأقلّ تلوّثاً على الشاطئ اللبناني، إلا أنّ الدراسة تحذّر من «تفريخ» بعض المكبّات العشوائية في تلك المنطقة.

مؤشّر التلوث اللبناني

تؤكّد الورقتان البحثيتان تلوّثَ المياه والشواطئ اللبنانية بـ«البلاستيك المجهري» بشكل كبير، ما يرفع من مؤشر التلوّث PLI، إنّما لا يمكن تعميم صورة واحدة لكلّ الشاطئ اللبناني، فنسب التلوّث متفاوتة وترتفع في المناطق التي توجد فيها مصبّات المجارير والمكبّات، مثل المنارة والدورة، حيث يناهز الـ20 (خطير للغاية)، ويعود ارتفاع المؤشر في هذه المناطق، بحسب الدراسة لوجود مرفأ بيروت بالقرب منها، والذي يدخله نحو 2300 سفينة سنوياً. في المقابل، ينخفض المؤشر في مناطق محميّة، مثل صور ومحيطها، فلا يتجاوز الـ5.

التلوث

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة