روسيا vs أميركا
عام على العملية الخاصة الروسية في أوكرانيا: جردة في النتائج الاستراتيجية والجيوبوليتيكية 2/1
يوسف الشيخ
لم يكن من الصدفة أن يدير الحرب بمواجهة روسيا من الجانب الأوكراني كلاً من لويد أوستين وزير الحرب الامريكي وبن والاس وزير الحرب البريطاني، فكلاهما ممثلي المجتمع الصناعي العسكري في بلديهما، أحدهما يمثل مصالح شركة (رايثون Raytheon) الامريكية العملاقة للصناعات العسكرية، والآخر يمثل شركة (كينتيك QinetiQ) البريطانية المتعددة الجنسيات للصناعات الدفاعية، وليس هذا فحسب، بل كلاهما من منظري الحرب الانكلوساكسونية الذين يروجان لمذهب الحرب في المنطقة الرمادية ضد (روسيا والصين وايران)، أحدهما وهو لويد يطلق عليها نفس المسمى أما الآخر فيطلق عليها مصطلح " العمل دون عتبة الحرب الشاملة"، ولم يكن من المصادفة أيضاً تقديم كل من رئيسيهما، وفي نفس الوقت تقريباً منذ سنتين ونيف في نيسان/ أبريل 2021 استراتيجيتهما القومية التي تعكس بمعظمها رؤية المخططين العسكريين للعالم، فقد قدم الرئيس الامريكي جو بايدن في الاسبوع الاول من نيسان/ أبريل عام 2021 "توجيهاته الاستراتيجية المؤقتة للأمن القومي وعبر المحيط الأطلسي"، فيما قدم رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في نفس الاسبوع " المراجعة المتكاملة للأمن والدفاع والتنمية والسياسة الخارجية إلى البرلمان". وفي كلا الخطتين أعرب القائدان عن قلقهما إزاء التحديات المتزايدة في "المنطقة الرمادية" ووعدا بإجراءات للاستجابة بشكل أكثر فعالية.
ينبغي التنويه هنا إلى تطابق التعريف الامريكي والبريطاني لمفهوم الحرب في "المنطقة الرمادية" جاء لأنهما يعتنقان نفس المبدأ الاستراتيجي الكوني "الاستعماري" حيث يعتبر الطرفان: "أن المنطقة الرمادية هي المسافة الواقعة بين السلام والحرب، والتي تنطوي على أعمال قسرية تقع خارج المنافسة الجيوسياسية العادية بين الدول ولكنها لا تصل إلى مستوى التورط في الصراع المسلح. ويتم تنفيذ الأعمال في المنطقة الرمادية من قبل الدول في كثير من الأحيان باستخدام الوكلاء الحكوميين وغير الحكوميين".
هذا التطابق ناتج عن سبب رئيسي، وهو أن معهد إنتربرايز (AEI) الذي يعتبر عقل المجمع الصناعي العسكري الامريكي هو الذي صاغ هذا التعريف الذي التزم فيه عضويه البارزين "والاس وأوستين" بل وشاركا في صياغته مع "مجتمع مهندسي الحروب" وهو الوصف الذي يطلق على اليمين المتشدد في تيار المحافظين الجدد الامريكي أمثال ( ديك تشيني، بول وولفويتز، جون بولتون وريتشارد بيرل ومايكل بارون .....إلخ).
بنك التفكير (لامريكي ــ البريطاني ــــ الاوسترالي) هذا كان أعضاؤه الامريكيون قد ابتدعوا عام 2002 مصطلح (محور الشر Axis of Evil)، والذي وصموا فيه كل من إيران والعراق وكوريا الشمالية بنفس الصفة، وجرى استبعاد روسيا والصين حينها لأن روسيا كانت في بداية عهد بوتين ما زالت متأثرة بنمط حكم الرئيس الروسي الراحل بوريس يلتسين الذي كانت واشنطن تعتبره رجلها في موسكو، فيما كانت الصين لا زالت في بداية صعودها إلى قمة القيادة الاقتصادية والتكنولوجية العالمية.
خلال عقد من الزمن لم تعطي الولايات المتحدة الامريكية بالاً أو اهتماماً قوياً لهاتين القوتين اللتين صعدتا بشكل كبير خلال العشرين سنة الماضية وباتتا تنافسان أمريكا على نفوذها الأحادي في العالم.
مرة جديدة أطل منظرو معهد "الإنتربرايز" ليطرحوا نظرية جديدة (قديمة) صيغت عام 1999 بعد النقاش والتوتر الذي ساد بين الناتو وروسيا، وبين أعضاء الناتو أنفسهم بسبب ضم كل من (بولندا والمجر والتشيك إلى المنظمة)، والذي تزامن مع الاطاحة بالنظام اليوغوسلافي الحليف الاكبر لروسي في وسط أوروبا، وحيث أن عين بنك التفكير التابعة لجماعة المحافظين الجدد كانت تركز على الهدف وهو ضم أوكرانيا وجورجيا إلى الناتو، لتكونان حصان طروادة الذي سيمتطيه الناتو لتطبيق النظرية الجديدة لإبعاد روسيا أولاً ثم التفرغ للصين عن طريق محاربة هاتين القوتين الصاعدتين دولياً في المنطقة الرمادية، بدأت النظرية الجديدة إعادة قولبة لصياغة أحد مؤسسي علم الجغراسيا "هالفورد ماكندر" الثانية والأخيرة عام 1943 للجيوبوليتيك العالمي، وإعادة تحديد رؤية جديدة للعالم تستنبط الحل للتدافع الامريكي الروسي والصيني القادم، وذلك باعتماد مفهوم الإزاحة شرقاً، أي فصل قلب اليابسة (الهارتلاند) الذي يضم معظم روسيا عن جزئه الغربي (شرق ووسط أوروبا) مع الابقاء عليهما منفصلين عن الهلال الخارجي الذي بات منذ تأسيس الناتو عام 1952 يضم الكتلة الأوروبية الغربية المحاذية أو المطلة على الأطلسي وجزر بريطانيا واليابان (الغير منضوية للناتو) وقارتي أمريكا وأستراليا.
هذا التعديل الجديد الذي صاغه الجيوبوليتيكي والمحلل الشهير مايكل بارون أحد دهاقنة معهد انتربرايز هدف إلى دفع قلب (الهارتلاند) أي روسيا خارج النطاق الاوراسي إلى نطاق آسيوي، بحيث تنعدم قدرة روسيا على التهديد مجدداً وحرمانها من الهيمنة نهائياً على شرق ووسط أوروبا. ترافقت صياغة النظرية مع انتخاب جورج بوش الابن وتحكم المحافظين الجدد بجميع مفاصل الاستراتيجيا الامريكية التي أطلقت مجدداً عمليات استقطاب سريعة لست دول أخرى عام 2004 من شرق أوروبا هي (بلغاريا، وإستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ورومانيا، وسلوفاكيا، وسلوفينيا)، وكانت المحاولة الأولى لتطبيق نظرية " بارون" لدفع روسيا خارج الحيز الاوروبي متزامنة حدثين بارزين:
الاول : في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2003 حيث أطاحت ثورة ناعمة ملونة أسميت بثورة الزهور بنظام الرئيس الجورجي السابق إدوارد شيفاردنادزه المدعوم من موسكو، وأوصلت ميخائيل ساكاشفيلي المدعوم غربياً وزعيم المعارضة الجورجية سابقاً إلى سدة الرئاسة الجورجية.
الثاني : في 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2004 وبعد عام بالضبط على ثورة جورجيا وبدعم أمريكي أوروبي اندلعت ثورة ثانية ملونة في أوكرانيا اسميت بالثورة البرتقالية كان مطلبها الرئيسي إعادة الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها المرشح الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش وادعى المتظاهرون أن الانتخابات مزورة وطالبوا "بوقف التدخل الروسي في شؤون البلد، ومحاربة ما أسموه الفساد المالي والإداري والسياسي، وإنشاء مؤسسات ديمقراطية قادرة على تحقيق آمال الشعب الأوكراني في الكرامة والتنمية وطالبوا باعادة الانتخابات الرئاسية " . فكان لهم ما أرادوا وفاز مرشح المعارضة فيكتور يوشينكو المدعوم من ادارة بوش بانتخابات قاطعها 40% من الشعب الاوكراني وشابها الكثير من علامات الاستفهام.
لم تنجح الثورتين بترتيب الأجواء لاستقطاب أوكرانيا وجورجيا غرباً إلى أوروبا بسبب بقاء النفوذ الروسي في المؤسسات الامنية والعسكرية الجورجية والاوكرانية وتمتع أنصار روسيا بتمثيل وازن في في برلمانات كلا البلدين.
حاولت جورجيا الجديدة تحدي موسكو عام 2008 بدفع من الناتو والولايات المتحدة لعزل روسيا عن القوقاز فتصدى لها الروس بقوة مفرطة حارمين إياها من إقليمين أساسيين يعتبران مفتاح القوقاز كانت العملية العسكرية الروسية بسرعتها وضخامتها إعلاناً للناتو ومن ورائه أمريكا بأن زمن استضعاف روسيا قد ولى وأن المجال الحيوي للاتحاد الروسي لن تسمح موسكو بالمس به ولو اضطرها لاحياء الحرب الباردة مجدداً.
في مجال آخر لم ينجح يوشينكو بإدارة اوكرانيا وتنفيذ وعوده فأعيد انتخاب فيكتور يانكوفيتش مجدداً عام 2010 في العام الثاني لحكمه.
في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2013 اندلعت ثورة برتقالية أدارتها بشكل مباشر خلية أزمة برئاسة فيكتوريا نولاند مساعدة وزير الخارجية الحالية ومسؤولة ملف أوروبا وأوراسيا حينها في الخارجية الامريكية، وتسبب التدخل الكثيف لعناصر الـ CIA كما اعترفت واشنطن لاحقاً بتحويل الثورة الملونة من حراك شعبي إلى حملة مسلحة لإطاحة الرئيس الشرعي فيكتور يانوكوفيتش، الذي رفض توقيع شراكة سياسية واتفاقية تجارة حرة مع الاتحاد الأوروبي في اجتماع للشراكة الشرقية في فيلنيوس عاصمة ليتوانيا، مختارًا بدلًا عن ذلك روابط أوثق مع روسيا. كان الاتحاد الأوروبي مستعدًا لتقديم 610 مليون يورو (838 مليون دولار) على شكل قروض، لكن روسيا كانت ستقدم 15 مليار دولار، فضلًا عن أسعار غاز أرخص. بالإضافة إلى ذلك، طلب الاتحاد الأوروبي تغييرات كبيرة في الأنظمة والقوانين الأوكرانية، لكن روسيا لم تطلب ذلك.
وبسبب ذلك كان يانوكوفيتش مكروهًا بشكل كبير في الغرب الأوكراني لكنه حظي ببعض الدعم في الشرق ــ حيث كان مُتحدثي لغته الأصلية الروسية أكثر تعداداً ـــ وفي الجنوب. كانت المسيرات في البداية سلمية لكنها أصبحت عنيفة في كانون الثاني/ يناير عام 2014 بعد أن مرّر البرلمان، قوانين تستهدف ضبط الأمن وقمع الاحتجاجات المسلحة . وحث الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يانوكوفيتش على التفاوض من أجل نهاية سلمية للنزاع وقالوا بأنهم سيفرضون عقوبات على مسؤولي الحكومة إذا اتضحت مسؤوليتهم عن العنف. كان ذلك البيان بمثابة كلمة السر للانقلاب المسلح الذي أطاح بيانكوفيتش وأتى إلى السلطة بأعضاء الحركة اليمينية القومية المسلحة والنازيون الجدد المتمثلين بكتيبة آزوف التي بلغ عدد أعضائها حينذاك 15 ألف مسلح.
كانت تلك هي المرة الأولى التي تسيطر الولايات المتحدة ومن ورائها الناتو بشكل كامل على قرار أوكرانيا وبدا الطريق الذي شقه جماعة "إنتربرايز" مفتوحاً للمرة الأولى للإطباق على كل أوكرانيا الدولة التي تمتلك أكبر مساحة وأكبر جيش في أوروبا.
إلا أن الأعمال الانتقامية التي شنتها الجماعات المتطرفة في الشرق وتحديدا في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك وفي شبه جزيرة القرم في الجنوب أدت بالنهاية إلى اتخاذ القرار الروسي الذي سيفخخ مسيرة اوكرانيا نحو الغرب والناتو طوال 8 سنوات، حيث أعلن إقليم القرم وإقليمي لوهانسك ودونيتسك استقلالهما عن أوكرانيا مما أدى إلى حرب طاحنة استمرت لسنوات فقدت فيهما حوالي 100 ألف كيلومتر مربع من أهم المناطق الصناعية والاستراتيجية الاوكرانية.
على مسار مواز كانت فرصة السنوات الثمانية عشرة من عام 2004 وحتى العام 2022 كافية لبريطانيا بشكل رئيسي والولايات المتحدة بشكل غير ظاهر لبناء كليات حربية في الغرب الاوكراني تتبع لنظام كليتي "ساند هيرست" (البريطانية) و"وست بوينت" (الامريكية) العسكرية ومعاهد للسياسة والادارة العامة لتأهيل الكادرات الوسطية والعليا ومختبرات افتراضية متطورة لبناء جيش الكتروني كبير ومحترف لإدارة وتخطيط كل أشكال الحرب الالكترونية والناعمة كما تولت أجهزة الاستخبارات العسكرية في الناتو تدريب معظم كوادر الجيش الالكتروني الجديد بهدف تعظيم الحرب في المنطقة الرمادية مع روسيا.
كان هدف بناء هذا الحشد الضخم من الخبراء يهدف إلى تحدي ومقارعة أوكرانيا لروسيا أولاً وتزعم كل الكتلة الاوروبية الشرقية ثانياً والتي كان من المخطط لها أن تجعل هوية روسيا الأوراسية غير ذات جدوى وتفرض عليها بالمثابرة وبالتواطؤ مع الناتو ومن خلفه بريطانيا والولايات المتحدة أن تصبح روسيا الآسيوية بالأمر الواقع.
في الحلقة الثانية: مصفوفة أهداف ومطالب الطرفين والنتائج
إقرأ المزيد في: روسيا vs أميركا
23/09/2023