سوريا.. نفــوسٌ أبـاةٌ
التعاطي العراقي مع كارثة الزلزال.. الانسانية بعيدا عن السياسة!
بغداد ـ عادل الجبوري
رغم انه لاتتوفر حتى الان احصائيات وارقام دقيقة بحجم المساعدات والمعونات المالية والعينية واللوجيستية التي قدمها العراق لضحايا الزلزال الذي ضرب مدنا ومناطق عديدة في جنوب تركيا وشمال سوريا فجر السادس من شهر شباط/ فبراير الجاري، الا ان مجمل المعطيات والمؤشرات تؤكد ان ما ساهم به العراق منذ وقوع الزلزال وحتى كتابة هذه السطور يفوق ما ساهمت به الكثير من البلدان الاخرى التي تتمتع بامكانيات اكبر وتعيش ظروفا افضل من العراق.
واتخذت مساهمات العراق الانسانية شقين، الاول حكومي ــ رسمي، كانت خطوته الاولى عبر رسالة التعزية والمواساة التي اصدرها رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وقال فيها، "نقدم التعازي باسم العراق حكومة وشعباً لجميع ذوي الضحايا من كل الشعوب الشقيقة والصديقة التي أصابتها آثار الكارثة الإنسانية، ولأبناء شعبنا في إقليم كردستان"، مقرونة بتوجيهه "بشكل عاجل، بإرسال عدد من فرق الدفاع المدني، والفرق والمواد الطبية الطارئة والإسعاف الأولي، ومستلزمات للإيواء والإغاثة، فضلاً عن كميات من السلات الغذائية والوقود، للإسهام في تقديم يد العون للضحايا والمتضررين". وبعد ذلك مباشرة راحت قوافل الاغاثة عبر المنافذ الجوية والبرية تتتابع دون توقف من العراق الى سوريا، هذا في الوقت الذي زار عدد من كبار المسؤولين والوفود السياسية الحكومية والبرلمانية العراقية دمشق، وتفقد المناطق المنكوبة ومتابعة سير واستمرارية وصول المساعدات الانسانية الى المنكوبين، وكان من ابرز الشخصيات التي زارت سوريا لاظهار الدعم والاسناد لشعبها وحكومتها جراء كارثة الزلزال، رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض، والنائب الاول لرئيس البرلمان العراقي علي اكبر محسن المندلاوي، فضلا عن ان السوداني تواصل بشكل مباشر مع الرئيس السوري بشار الاسد مبديا الاستعداد الكامل لتقديم اقصى ما يمكن تقديمه لتقليل اثار هذه الكارثة المروعة.
الى جانب ذلك، كان لهيئة الحشد الشعبي بمختلف مفاصلها ودوائرها، حضورا فاعلا ودورا كبيرا في انقاذ المصابين من تحت الانقاض وانتشال جثث الضحايا واغاثة المنكوبين، وما عزز كل ذلك هو التواجد الميداني المباشر للعديد من كبار قيادات الحشد، لاسيما رئيس الاركان عبد العزيز المحمداوي (ابو فدك)، وبعض القيادات والكوادر المختلفة الاخرى.
في ذات الوقت لم يكن حضور ودور المرجعية الدينية وادارات العتبات المقدسة في العراق بقليل او هامشي للمساهمة في التخفيف من معاناة الاف الاشخاص الذين فقدوا كل شيء جراء الزلزال المدمر.
ويمكن اعتبار دور المرجعية والعتبات ضمن الشق الثاني للمساهمات الانسانية العراقية، حيث انه من خلال مكاتب مختلف المراجع، لاسيما المرجع السيد علي السيستاني، ومعتمديهم ووكلائهم في شتى محافظات ومدن البلاد، تم جمع كميات هائلة من مواد الاغاثة الاساسية وارسالها الى المناطق المنكوبة.
ولعل المبادرات الانسانية بشقيها الحكومي وغير الحكومي تجاه تركيا هي الاخرى كانت فاعلة ومؤثرة وايجابية الى حد كبير.
ولعل الشيء المهم للغاية هنا، يكمن في ان الابعاد والجوانب والدوافع الانسانية الخالصة هي التي شغلت كل زوايا المشهد، بعيدا عن كل الابعاد والجوانب والحسابات والتراكمات السياسية. ولاشك ان هذه نقطة مهمة وجوهرية، ربما يكون العراقيون قد امتازوا بهم عن غيرهم من مختلف الشعوب والمجتمعات الاخرى.
فلو كان للابعاد والجوانب والحسابات السياسية وجود واثر في بلورة المواقف الرسمية وغير الرسمية الانسانية العراقية تجاه سوريا وتركيا، لكان بامكان البعض ان يقول ان سوريا ساهمت في فترة من الفترات بشكل او باخر بدعم الجماعات والتنظيمات الارهابية في العراق، او بأدنى تقدير غضت الطرف عن تحركاتها والجهات الممولة والداعمة لها والمتعاطفة معها في سوريا.
ولو كان للابعاد والجوانب والحسابات السياسية وجود واثر، لكان بأمكان البعض ان يقول ان تركيا عملت في معظم الاحيان على تغذية الفتن الطائفية في البلاد، ودعمت اطرافا سياسية معينة على حساب اطراف سياسية اخرى، ناهيك عن انتهاكاتها المتواصلة للسيادة الوطنية، وحرمانها العراق من حصصه المائية المقررة من مياه نهري دجلة والفرات.
لو كان الامر بهذه الصورة، لما هبّت مختلف الجهات الحكومية والاوساط والمحافل الدينية والمجتمعية العراقية المختلفة لاغاثة ومساعدة المنكوبين من ابناء الشعبين السوري والتركي.
هذه الصورة الانسانية العميقة في دلالاتها ومعانيها، تختلف تمام الاختلاف عن صورة التوظيف السياسي لبعض القوى الكبرى، التي وجدت في كارثة الزلزال فرصة ذهبية للامعان في ايذاء الشعب السوري، بعدما وضعت قانون قيصر وطبقته عليه قبل عدة اعوام لتزيده من معاناته التي تسببت بها الحرب الاميركية الغربية العربية التكفيرية.
وبقدر ما كانت السياسة بقوالبها المصلحية والانتهازية والبراغماتية الضيقة سببا للكثير من الماسي والويلات والفتن والحروب بين الامم والمجتمعات والشعوب، فقد كان العنوان الانساني العام مفتاحا ومدخلا لعلاقات وروابط طيبة، وسببا لتصحيح المسارات الخاطئة والمواقف المغلوطة. فالمباديء السليمة حينما تكون هي المحرك والدافع في وقت الازمات الكبرى، بدلا من المصالح وتصفية الحسابات وفق منطق الانتقام والثأر والتشفي، فحينذاك تتسع فرص وافاق التعايش والتفاهم والحوار، وتنفتح ابواب الحلول والمعالجات الواقعية والحقيقية للمشاكل والازمات.
بعبارة اخرى التعاطي الانساني مع كوارث وماسي الاخر، بعيدا عن تراكمات وعقد الماضي السلبية، وبصرف النظر عن المسميات والعناوين القومية والدينية والمذهبية والعرقية الضيقة، من شأنه ان يمهد السبيل ويضع الاساس لما هو صائب وسليم.. ولعل الموقف العراقي بأطاره العام والشامل من كارثة الزلزال التركي ــ السوري الاخير اقرب واوضح وافضل مصداق على ذلك.