نصر من الله

نقاط على الحروف

ماذا يجري في أفريقيا؟
09/09/2023

ماذا يجري في أفريقيا؟

أحمد فؤاد
أفاق العالم على واقع جديد، مع تبعات زلزال المواجهة الروسية الأميركية في قارة أوروبا، والتي تشتعل نارًا ودمًا فوق أوكرانيا، وتمتد نيرانها اللافحة إلى كل أنحاء العالم، كمواجهة كبرى استطاعت كل قوة فيها أن تحشد قواها وحلفائها وأدوات تأثيرها ــ وأتباعها كذلك ــ وكظرف صراع تاريخي غير مسبوق على قمة العالم، فإن الكل استشرس، ويجتهد في محاولات خصم أوراق قوة وسيطرة أعدائه، وفي هذا المناخ الدقيق، ومع إضافة أزمة أخرى أكبر.. "كورونا" وتكاليفها الفادحة، فإن كل دولة في عالم اليوم معرضة لخسائر فادحة، وبعضها معرض أكثر للغرق.

التكلفة الهائلة للحرب الأميركية الكاملة التي تجري على روسيا عسكريًا، وعلى الصين وإيران وغيرهما، اقتصاديًا، تدفعها الحلقات الأضعف في النظام العالمي القائم اليوم، على سبيل المثال فإن كل الدول العربية، حتى النفطية منها تعاني بأشكال متفاوتة من تضخم هائل، يبدد الثروات في أحيان، ويستلب من غالبيتها أية فرص للنجاة من الأزمات الحالية، يمكن ملاحظة حال أية دولة عربية، ومعاناتها من الأسعار المرتفعة، التي زادت نسب زيادتها أضعافًا مضاعفة، حتى بالمقارنة ببؤرة الصراع في روسيا أو أوكرانيا.

إذا كان هناك توصيف حقيقي للوضع القائم، فإن من قدمه هو الرئيس التنفيذي السابق اللامع لشركة "إنتل" ـ أندرو غروف الذي اعتبر إن "الأزمات تدمر الشركات الضعيفة، وتنجو منها الشركات الجيدة، أما الشركات القوية فتستغل الأزمات للتطوّر والنمو"، وهذا بالضبط ما ينطبق على الحال التعس القائم، بعض الدول بدأت فعلًا في الانهيار تحت وطأة الظروف، وبعض الشعوب بدأت ــ أو حتى بدأت نخبها ــ الإقدام على عمليات تغيير تضمن أن تحاصر أضرارها وتحاول تعديل مسيرتها وسياساتها.

هكذا يمكن فهم وباء الانقلابات العسكرية الستة التي اندلعت خلال شهور قليلة في قارة أفريقيا، التي تعد كل دولها في مؤخرة دول العالم من حيث التنمية والعدالة وأي مؤشرات للاهتمام بالبشر والإنسان، وتلك الدول يجمعها أكثر بكثير من كونها تقع في قارة واحدة، وتدفعها عوامل أكثر بكثير جدًا من مجرد استبدال طبقة حاكمة جديدة بأخرى جديدة دون تغيير سياسي واسع وشامل وعميق.

أفريقيا كقارة، فقيرة جدًا وبائسة في إدارة اقتصادها، ويكاد يكون الحاكم الفعلي لكل دول القارة هو "الفساد"، وهي كلها دول تابعة أو شبه تابعة لدول أكبر، الغرب ــ وبالذات فرنسا ــ لا تزال تسيطر على كل اقتصادات دول غرب أفريقيا، والتي رغم ثراء أرضها بالمعادن الثمينة والذهب والنفط واليورانيوم، إلا أن شعوبها لا تجني من كل هذا في الواقع شيئًا، الأرباح تذهب فقط إلى الشركات الفرنسية أو الأميركية، والفتات يلقى إلى زعماء محليين خرجوا من مدرسة فرنسا، وهم مخلصون في عملهم هذا أكثر من حكومة باريس.

الدول التي نجحت فيها الانقلابات العسكرية خلال السنوات الثلاث الماضية، كانت: مالي ــ تشاد ــ النيجر ــ غينيا ــ بوركينا فاسو وأخيرًا الغابون، الدول الستة منتجة للذهب أو النفط أو كلاهما، بالإضافة لليورانيوم والمعادن الثمينة الأخرى، لكن كل ذلك بلا نتيجة، السيطرة الاستعمارية الفرنسية على المستعمرات السابقة جعل من المستحيل أن تقوم أية دولة بواجبها الأول والأساس وهو تنمية شعبها، وصارت مهمة الحاكم الأفريقي المتشبع بالثقافة والمرتهن للإرادة الفرنسية هو إمداد أرباب نعمته بأكبر قدر من الثروات والموارد، مقابل ضمان أمنه الشخصي، وفقط.

لكن الانقلابات الجديدة في أفريقيا لها أبعاد أخرى، فرغم أن القارة شهدت 100 محاولة انقلاب منذ هبت رياح التحرير في الستينات، وشهد العالم كله منذ عام 2017، وقوع 17 انقلابًا، كانت 16 منها في أفريقيا، وانقلاب وحيد خارجها في ميانمار في 2021، إلا أن هذه الانقلابات الجديدة تجري بنعومة، ثورات بيضاء إن جاز القول، دون إراقة دماء، ويحدث معها تفاعل شعبي سريع كما شهدنا في النيجر وبوركينا فاسو والغابون، كما أن النخبة العسكرية التي قادت عمليات الانقلاب من الضباط الشبان، وتبنوا على الفور خطابًا معاديًا لفرنسا وللغرب كله تقريبًا، كما جاء في خطاب إبراهيم تراوري قائد الانقلاب في بوركينا فاسو.

على سبيل المثال، لا الحصر، وفي آخر بلد شهد انقلابًا بأفريقيا، دول الغابون، فإن الحكم فيها منذ الاستقلال عن الاحتلال الفرنسي شهد 3 وجوه فقط لا غير، بعد الاستقلال مباشرة حكم ليون مبا لمدة 7 سنوات، وبعد وفاته صعد عمر بونغو "الأب" للحكم وظل يحكم بقبضة حديدية لمدة 42 عامًا إلى أن مات في مستشفى إسباني فاخر في 2009، وحكم خلفه ابنه علي بونغو، الذي يحكم منذ 14 عامًا، مستندًا إلى نفوذ فرنسي عسكري، يشمل الدعم السياسي والوجود العسكري بقاعدة رئيسية في العاصمة ليبرفيل.

تتمتع الغابون بموارد هائلة، وكلها تحت تصرف عصابة تتكون من الشركات الغربية، فرنسية وأميركية، وبشراكة مع عائلة بونغو، التي كشفت تحقيقات صحفية فرنسية أنها تمتلك مئات العقارات الفاخرة، والحسابات البنكية في أوروبا، وتعقد الشركات الغربية صفقاتها الحرام مباشرة مع الرئيس أو عائلته.

وتمتلك الغابون الماس والذهب واليورانيوم والنفط والغاز، ويشكل النفط وحده نحو 96% من إجمالي صادرات البلاد إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى ذلك فإن الغابون من أكبر منتجى المعادن في أفريقيا وهي سادس أكبر منتج لـ"المنغنيز" في العالم، وتنتج أكثر من 5 ملايين طن من "المنغنيز" سنويا، كما تقوم بتصدير خام "المنغنيز" والبترول الخام إلى فرنسا، مقابل اتفاقات فاسدة وسرية، في مقابل كل هذه الثروات، فإن  تقريرًا حديثًا للبنك الدولي يقول أن 37% من سكان الغابون يعيشون تحت خط الفقر المدقع، وهو تعبير "غربي لطيف" معناه أن الإنسان قد لا يجد وجبة واحدة مشبعة طوال يومه، أو بكلمات أبسط وأكثر ترويعًا لا يملك القدرة على الحياة بحد ذاتها.

المثير في قصة الغابون، أن فرنسا ــ القوة الاستعمارية السابقة ــ منحت نفسها لنفسها حق إصدار الوحدة النقدية الأساسية في وسط وغرب أفريقيا، والمعروفة باسم الفرنك الأفريقي "CFA"، وهو نظام تخضع بموجبه 14 دولة أفريقية للنظام المصرفي الفرنسي من خلال اعتماد عملة موحدة مرتبطة بالبنك المركزى الفرنسى، وتجبر هذه الدول على وضع نصف احتياطياتها على الأقل لدى المركزي الفرنسي.

ما الذي يهمنا في أفريقيا، اليوم، إن الخصم من إمكانيات الخصم وموارد قوته قد يكون هو أهم سلاح في الحرب الكوكبية الجارية، حين تستعيد الدول سيطرتها على مواردها فهي لا تضمن لشعبها حياة جيدة، وفقط، لكنها أيضًا تحد من قدرة قوى الشر في العالم على خوض حروب جديدة، وتقلم أظافرها وتكسر أنيابها، وهذا في الواقع جل ما قد ننتظره من إعادة تصويب مسارات هذه الدول المحتلة اقتصاديًا وسياسيًا وفعليًا.

في هذه الحرب الجديدة بيننا وبين الأميركي والغرب عمومًا، ربما لن توجد معركة عسكرية فاصلة أو تحدث فعلًا مواجهة على الأرض حاسمة، النصر هنا سيتحقق بالنقاط، ما تستطيع أن نتزعه من عدوك سيصبح ــ ولو بالخصم ــ قوة مضافة إليك في الحساب النهائي، وعجز العدو عن فرض هيمنته وعن البقاء متفردًا يمص ويعتصر الدول التابعة واحدة بعد الأخرى، واضطراره تحت وطأة الضربات إلى الانسحاب والتقهقر والتراجع إلى ما وراء المحيط سيصبح هو البداية لنهاية إمبراطورية الشر الأميركية، وتوابعها في غرب أوروبا، بهذه الانتصارات الشعبية الواسعة في ميدان المعركة الفسيح بقدر الكوكب كله، فإن كل خطوة للعدو إلى الوراء تحمل إلينا أملًا وإيمانًا ونصرًا من الله.

بوركينا فاسوماليالغابون

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية
مقالات مرتبطة