طوفان الأقصى

مقالات مختارة

التهجير والانقلاب التاريخيّ: الديمغرافيا شيفرة القوة
14/12/2023

التهجير والانقلاب التاريخيّ: الديمغرافيا شيفرة القوة

صحيفة البناء - ناصر قنديل

- حتى العام 2000 وخلال نصف قرن ونيّف على قيام كيان الاحتلال، كانت المعادلة عبر الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة، تقوم أمنيّاً على قدرة أحاديّة لجيش الاحتلال على تهديد الأمن عبر الحدود، وفرض إرادته على كل وجوه الحياة، من إقامة حواجز التفتيش داخل القرى اللبنانيّة، إلى الزام السكان بإطفاء أضواء بيوتهم عند توقيت معين ليلاً، والامتناع عن التجوّل في شوارع هذه البلدات، وصولا الى التحكم بما تستطيع الدولة فعله على الصعيد الإنمائي وما لا تستطيعه. والكل يذكر منع جيش الاحتلال للدولة اللبنانية جرّ مياه نهر الوزاني الى عدد من القرى الجنوبية في العام 1964 بمجرد إطلاق قذيفة صوتيّة، كانت كافية لإيقاف الأعمال بتركيب مضخات المياه.

– عرف الجنوبيون التهجير كسيرة قابلة للتكرار على مدى خمسين سنة عدة مرات، فكلما قرّر جيش الاحتلال قصف القرى الحدودية بسبب أو دون سبب كان الجنوبيّون يحزمون ما تيسّر حمله ويغادرون قراهم، لأنهم لا يعلمون ما إذا كانت الخطوة التالية اجتياحاً صغيراً أو كبيراً، وقد تمّ ذلك أعوام 1972 و1978 وصولاً إلى اجتياح العام 1982، وبقي التهجير هاجساً يسكن نفوس القرى الجنوبية، خصوصاً الواقعة في مدى عشرين كيلومتراً، هو مدى اجتياحه الأول عام 1972، فتوقف الإنماء والعمران للخوف المقيم من الخراب المتوقع في أي وقت.

– منذ العام 2000 تغيّرت المعادلة بوجود المقاومة والثقة بقدراتها وإخلاصها للالتزام بحماية الجنوب والجنوبيين، وتعزّز ذلك بعد حرب تموز 2006 أكثر، فانتعش العمران وأقيمت المشاريع الإنمائية واستثمر المغتربون في بناء بيوت وقصور ومصانع ومشاريع زراعية وسياحية، وصار سماع صوت قذيفة أو تحليق طائرة، مجرد تحريض الفضول للسؤال عن السبب ومن ثم العودة إلى دورة الحياة العادية، بعدما كان هذا كافياً في الماضي لإطلاق موجة تهجير. وهكذا صار التهجير مجرد ذكريات يرويها الأجداد لأحفادهم والآباء لأولادهم.

– منذ اندلاع الحرب في 8 تشرين الأول بقرار من المقاومة إسناداً لغزة ومقاومتها، وتحوّلها تدريجياً الى حرب استنزاف، بدا أن الانقلاب يتحقق في تحديد الجهة المبادرة لفتح الجبهة، وهكذا أصبحت البلدات الجنوبية الحدودية والنسق الثاني الذي يليها حتى عمق عشرة كيلومترات ساحة حرب، تتلقى القصف، وأصبحت عرضة للاستهداف، وسقط من بين أهلها شهداء، لكن هلع التهجير لم يُصِب الجنوبيين، فخرجت من هذه البلدات والقرى مئات العائلات، بمقدار قربها من التهديد والخطر، وتشكل مجموع يقدّر بعشرين ألف نسمة غادروا قراهم خلال أكثر من ستين يوماً من الحرب الضروس الجارية على الحدود، بعدما كان يوم واحد من إطلاق النار يتكفّل بتهجير مئات الآلاف.

– على الجهة المقابلة من الحدود، للمرة الأولى يختبر المستوطنون تجربة القلق الدائم التي عاشها الجنوبيّون نصف قرن، وهم يتذوّقون كأس التهجير المرة، لأول مرة. ففي عام 2006 تم إخلاء بعض السكان لكن الأغلب نُصحوا بالذهاب الى الملاجئ، وكانت فعاليّة صواريخ المقاومة محدودة. والتهديد الذي يشعره المستوطنون اليوم سابق لانطلاق الصاروخ الأول، فهم باتوا يعرفون ما لدى المقاومة جيداً ويدركون جدّيتها ويخشون أن يكونوا ضحايا الوجبة الأولى من صواريخها، مع إدراكهم أن استهداف البنى المدنية والمساكن لم يبدأ بعد، ولذلك يقول رؤساء المستوطنات الشمالية حتى عمق عشرين كيلومتراً أن مستوطناتهم تحوّلت إلى مدن أشباح، ويقدّرون عدد النازحين بمئتي ألف مستوطن من أصل ثلاثمئة ألف يعترف بهم مكتب الإحصاء الرسمي في كيان الاحتلال منهم مئة ألف من الحدود من مستوطنات غلاف غزة.

– الانفعالات التي يعيشها قادة كيان الاحتلال تحت ضغط هذا الانقلاب التاريخيّ طبيعيّة، فالذي يجري يقول إن تبادلاً في الأدوار حصل عبر الحدود خلال ربع قرن مضى، يعكس الاتجاه الذي ساد لنصف قرن سبقه. ومثلما كانت معادلة المرحلة السابقة تعبيراً دقيقاً عن موازين القوى بين كيان الاحتلال والعرب جميعاً، وليس تفوّق جيش الاحتلال على لبنان وحسب، وتباهى بها قادة الكيان على هذا الأساس مراراً، فإن معادلة المرحلة الحالية يجب أن يتمّ التعامل معها كتعبير حقيقي عن موازين القوى التي فرضها حضور المقاومة وثباتها وقوتها على مستوى المنطقة كلها، وليس على حدود لبنان فقط، والمكافئ الديمغرافي لميزان القوى هو ثبات السكان وهجرتهم، وربما تكون نسبة واحد إلى عشرة التي تعبر عنها أرقام التهجير على ضفتي الحدود، مناسبة لتعريف نسبة توزّع القدرة والقوة والتهديد على طرفي الحدود. ولهذا يطالب الجنوبيون بتكريس الواقع القائم كي يعود مَن تهجّر منهم، بينما يطالب المستوطنون بتغييره وإلا فإنهم لن يعودوا. ولهذا يقول قادة المقاومة إنهم يصمّون آذانهم عن سماع أي مداخلات تتصل بترتيبات في الجنوب، وإن الأولوية عندهم لوقف العدوان على غزة، بينما يقول قادة الكيان إن آذانهم صاغية للسماع وعقولهم جاهزة للتفاعل مع أي مبادرات تتصل بترتيبات للوضع عبر الحدود مع لبنان، وأن الأولوية عندهم هي للفصل بين ما يجري في غزة والوضع في الشمال.

فلسطين المحتلةالمقاومة

إقرأ المزيد في: مقالات مختارة

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة