آراء وتحليلات
نتنياهو و"الجولاني" والرعاية الأميركية
نزعة الإجرام والقتل وسفك الدماء لا تُستولد من فراغ، بل تستند إلى عوامل وحوامل ومواصفات ذاتية تفعل فعلها بالتحريض الذي تختلف درجات الاستجابة له من مكون إلى آخر، وإن كانت "الأنا" المتورمة سرطانيًا تمثل "الدينامو" الذي يحرك بقية الأطراف المساهمة بالفعل الجرمي الموصوف، لأن تلك "الأنا" تحمل في كينونتها الذاتية الجينات الوراثية المؤهلة لكسر حاجز القيم والأخلاق والأعراف التي تحكم السلوك الإنساني، كما تحمل الدوافع المكتسبة والمختلفة بدرجة الفاعلية وشدة التأثير بين المجرمين أفرادًا كانوا، أم منظمات، أم كيانات، أم دولًا قائمة على أرض الواقع. وهنا تصبح الأولوية والأهمية مرتبطتين بالرقعة الجغرافية الممنوحة من المشغل للإرهاب والمستثمر بالأفعال الجرمية وتداعياتها، مع امتلاك القدرة على توجيه تلك التداعيات والتحكّم بشدتها وانتشارها بما ينسجم والأجندة الخاصة بهذا المستثمر أو ذاك، بغضّ النظر عن عدَّاد الجرائم المرتكبة، فروح الإجرام والقتل والإبادة والاستهزاء بعذابات الضحايا تشكّل القاسم المشترك بين القتلة الجناة، وهذا ما يجمع - من حيث النتيجة - بين حكومة نتنياهو المتطرّفة وبين السلطة التي فرَّخوها في غرف العمليات، وأطلقوا يد زعيم هيئة تحرير الشام "أبو محمد الجولاني" ليتحكّم بالناس في مناطق السيطرة التي ينتشر فيها الإرهاب التكفيري المسلح في محافظة إدلب وبقية الامتدادات باتّجاه ريف حلب الغربي وشمال اللاذقية ومناطق أخرى.
ممّا لا شك فيه أن التطور العلمي الكبير الذي بلغه علم الوراثة، والإنجازات غير المسبوقة للتحليل المخبري جعلت معرفة الجناة ميسرة وبوقت قياسي، فالجينات لها بصمتها الذاتية، وتحليل /DNA/ كفيل بقطع الشك باليقين للحكم بالبراءة أو تثبيت التهمة على هذا المجرم أو ذاك. لكن مخابر التحليل الجرمي في السياسة ليست كذلك، بل هي مبرمجة أميركيًا لتصدير النتائج البعيدة عن الحقيقة كليًا، وغالبًا ما تُلصق تهمة الإجرام بالضحايا، وتبرئة المجرمين من تداعيات ما يقومون به ويرتكبونه من فظائع وقتل وافتراس للإنسان وإنسانيته، مع أن دماء الضحايا الأبرياء ما تزال تقطر من بين أشداقهم التي ما أن يفتحوها للتثاؤب أو القهقهة حتّى تظهر بقايا لحم الأطفال وأشلاء النساء والعجز والمرضى وبقية الأبرياء بين الأنياب التي تقطر سمًا ووحشية، كما تظهر بقايا ركام المساجد والكنائس والمستشفيات والمدارس التي سُويت بالأرض بين مخالب القتلة، بغضّ النظر عن الأسلوب المستخدم، سواء دكَّ تلك المنشآت بالطيران الحربي والصواريخ، أم استهدفها بمن فيها بالانتحاريين والعربات المفخخات، فالنتيجة واحدة، والمجرم هو المجرم. وعلى سبيل المثال لا الحصر، إجرام نتنياهو - وهو يرتدي السترة الواقية عندما زار القطعات العسكرية المكلفة بتسوية غزّة بالأرض- لم يختلف عن إجرامه وهو يزور جرحى تنظيم جبهة النصرة الإرهابي الذين نُقلوا لتلقي العلاج في المشافي الإسرائيلية في الجولان المحتل. وكذلك الأمر في ما يتعلق بزعيم "هيئة تحرير الشام" الإرهابية أبو محمد الجولاني الذي لم ينخفض مستوى الإرهاب والإجرام المسكون فيه عندما كان يظهر بلباس الميدان، وبين ظهوره مؤخرًا بأناقة "الطقم" الذي جرت حياكته في أحدث مصانع الألبسة الغربية، والتاريخ الإجرامي للجولاني لا يمكن تشذيبه بما يتناسب وتشذيب لحيته وتقصيرها، لأن كلّ شعرة فيها مبللة بدماء ضحايا الإرهاب الممنهج الذي ائتمن الجولاني على تزعمه وقيادته وفقًا للأجندة التي أعدها مسبقًا من عملوا على خلق تنظيم القاعدة وإطلاق يده لتفتيت المنطقة، وتشظية دولها ومجتمعاتها وشعوبها، لضمان سرقة ثرواتها وخيراتها والتحكّم بمصائر أبنائها حاضرًا ومستقبلًا.
توقفتُ مطولًا عند المظاهرات التي تخرج في شوارع "تل أبيب"، وتغلق العديد منها وترفع الصوت عاليًا مطالبة بتنحية نتنياهو وحكومته الأكثر تطرفًا في تاريخ الكيان المؤقت، وسرعان ما تقوم شرطة الاحتلال بإغلاق المداخل المتوقعة لسير تلك المظاهرات، ولا تتورع عن استخدام العنف في قمعها عندما تقترب أكثر من المسموح به. وكذلك هو حال المظاهرات الشبيهة التي خرجت في عشرات البلدات والمدن في محافظة إدلب، وامتداد تلك التظاهرات لتدخل جسر الشغور وتصل إلى مركز مدينة إدلب مطالبة بتنحي الجولاني والجهاز الأمني التابع له، وإخراج المعتقلين الذين زجّ بهم الجولاني في أقبية سجونه، مع أن العديد منهم من الشخصيات المقربة التي شغلت مفاصل حساسة في تنظيم "هيئة تحرير الشام".
في شوارع "تل أبيب" يهتف المتظاهرون مطالبين بتنحي نتنياهو وتوقيع اتفاق يضمن إطلاق الأسرى عند المقاومة الفلسطينية، لكن نتنياهو لا يهتم بحياتهم ولا بمشاعر أهلهم وأسرهم. وهناك في شوارع إدلب يتحدى السكان قمع سلطة الجولاني ويخرجون متظاهرين يطالبون بتنحية الجولاني وتبييض السجون. في إدلب يطالبون بإخراج المعتقلين من أقبية السجون تحت الأرض، وفي شوارع "تل أبيب" يطالبون بإخراج الأسرى من أنفاق غزّة. لا صوت هؤلاء مسموع، ولا صوت أولئك، ومن شملهم مرسوم عفو الجولاني ما هم إلا قليل من كثير، وحفنة من أكوام تراكمت في الأقبية، فمنهم من مات، ومنهم من يتقلّب على جمر التعذيب والانتقام بوحشية لا تعادلها إلا وحشية الصهاينة وإجرامهم المتكرّر بحق الشعب الفلسطيني الذي قال كلمته، وأثبت أن اليد الواحدة وإن كانت لا تستطيع التصفيق، إلا أنها تجيد الصفع، فكيف وقد ثبت بالأدلة الدامغة أن هذه اليد لن تُترك وحيدة، بل سَيُشَدُّ عضدُها بأيادٍ وأيادٍ وقبضات تعلو وحناجر تهتف، وصواريخ تزغرد من كلّ اتّجاه، ويصل شعاع بعضها إلى المحيد الهندي؟
السؤال المشروع الذي يطرح نفسه هنا: هل كان بإمكان "الجولاني" الاستمرار في غيّه وإجرامه إلا بمباركة أميركية مباشرة؟ وإلى من يشكك في ذلك نحيلهم إلى ما صرح به جهاد عيسى الشيخ (أبو أحمد زكور) الذي كان يعدّ الرجل الثاني في الهيئة التي يترأسها الجولاني، واستطاع الهرب بعد فضيحة عُرفت بـ "الخلية الأمنية" وشنَّ حملة اعتقالات كبيرة شملت 400 من القياديين في تنظيم هيئة تحرير الشام بذريعة التخابر مع الخارج، وبعد ضمان الخروج من مناطق سيطرة الجولاني أكد المدعو "أبو أحمد زكور" وبرهن بالإثباتات والدلائل على ارتباط كلّ من "أبو محمد الجولاني" زعيم الهيئة ومسؤول الأمن لديه بالتحالف الأميركي، ومثل هذه السردية مقبولة من منطق التحليل والعقل الموضوعي، وإلا كيف يمكن فهم قدرة أميركا على ملاحقة وتصفية من تشاء ساعة تشاء، وبقاء الجولاني يسرح ويمرح برعاية واشنطن وأجهزة القتل الممنهج فيها؟
وما تصفية زعيم تنظيم "داعش"، في العام 2019، إلا الدليل الأبلغ على ذلك، والتصفيات التي تنفذها واشنطن لم تكن في يوم من الأيام للقضاء على الإرهابيين؛ بل لأن الدور الوظيفي لبعضهم قد انتهى، وبالتالي يحب التخلص منه، أو من خلال استهداف من تثبت قدرتهم وكفاءتهم على محاربة الإرهاب ورعاته، فيُستهدفون لضمان تمكين التنظيمات الإرهابية المسلحة من العمل وتنفيذ الأجندات المطلوبة.
الأمر ذاته ينطبق على نتنياهو وحكومته، فما كان للوحشية الإسرائيلية أن تبلغ هذه السقوف التي لم تعرفها البشرية من الإجرام والإرهاب الموصوف إلا بمباركة ومشاركة أميركية. ولم يكن باستطاعة جيش الاحتلال أن يستمر شهرًا كاملًا لولا تدفق الدعم غير المحدود والحضور الأميركي المباشر عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا.
كل هذا لن يغير الواقع، ولن يقلل من وهج اللوحة الفلسطينية التي اكتملت أركانها وألوانها، وليس أمام حكومة الظل التي تمسك بمفاصل صنع القرار الدولي إلا أن تعطي الضوء الأخضر للإدارة الأميركية لإسدال الستار على حقبة نتنياهو، ليس كرهًا به؛ بل لأنه أصبح يشكّل خطرًا وجوديًا على استمرارية الدور الوظيفي لكيان بكليته، وإذا استطاع نتنياهو أن يتملص من هكذا نفق وطال الوقت، فربما تأخذ تداعيات الأداء الميداني المتكامل لأطراف محور المقاومة المسؤولية على عاتقها، وتدفع بمفاجآت جديدة تلزم الداخل الاستيطاني على الإطاحة بنتنياهو قبل أن يطيح بالكيان المؤقت وبدوره الوظيفي الذي أقيم لأدائه. وما النصر إلا صبر ساعة، وإن غدًا لناظره قريب.
د. حسن أحمد حسن
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
29/11/2024