آراء وتحليلات
مالي.. مفتاح الاستقرار في منطقتها
تونس - روعة قاسم
تعتبر مالي دولة محورية في محيطها نظرا للترابط الحضاري والتاريخي والثقافي لشمالها مع البلاد المغاربية، وجنوبها امتداد إثني وعرقي لدول غرب إفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي. وبالتالي فإن أمن واستقرار دول منطقة الساحل والصحراء يمر عبر مالي ولا يمكن لهذه المنطقة أن تعرف الهدوء والسكينة ما دامت مالي مشتعلة بحروب ومعارك الانفصال من جهة والانقلابات العسكرية من جهة أخرى.
لذلك هب المستعمر الفرنسي السابق سنة 2012 للتدخل العسكري في باماكو حين كانت الجماعات التكفيرية قاب قوسين أو أدنى من احتلال العاصمة المالية بعد أن سيطرت على إقليم أزواد في الشمال مستغلة تقهقر الجيش المالي تحت ضربات الانفصاليين الطوارق. ويحاول التكفيريون منذ بداية تسعينيات القرن الماضي التقرب من الطوارق والظهور بمظهر المدافع عن عدالة قضيتهم لإيجاد موطئ قدم لهم في تمبكتو وغاوا وكيدال وغيرها من حواضر إقليم أزواد وهو ما يسيء لقضية الطوارق المغاربيين الذين يعانون من حكم عنصري تمييزي ماليّ على أساس اللون والعرق رغم وحدة الديانة.
ظلم تاريخي
ضم الاستعمار الفرنسي إقليم أزواد الذي تقطنه قبائل الطوارق المغاربية قسرًا إلى باماكو لأنهم رفضوا أن يصبح الإقليم، الذي كان مرشحًا ليكون دولة مع أراض أخرى للطوارق في بلدان مجاورة، محمية فرنسية تستنزف ثرواته وتُرحل إلى باريس. ومنذ ذلك التاريخ وحكومات مالي المتعاقبة العميلة لفرنسا تحرمهم من حقهم في التنمية وتقمعهم بدموية كلما صدحوا ببعض المطالب، وطالتهم إبادة عرقية من الماليين بسبب اتهامات تاريخية لهم بأنهم سبب استعباد ذوي البشرة الداكنة وأنهم من كان يبيعهم كعبيد لدول إفريقيا الشمالية العربية المغاربية.
لذلك برزت مطالب انفصالية في صفوفهم وتشكلت حركات تطالب بتحرير أزواد من الاستعمار المالي الذي هو بالأساس استمرار للاستعمار الفرنسي، لكن هذه المطالب لا تجد آذانا صاغية لدى دول الجوار باعتبار أن في هذه الدول أيضا طوارق ضمت فرنسا أراضيهم إلى هذه الدول. فكلما هدأ الانفصاليون الطوارق في مالي تنفست بعض الدول المغاربية ومعها النيجر الصعداء لأن الطوارق على أراضي هذه البلدان يتأثرون ويؤثرون في أبناء جلدتهم في مالي ويتعاطفون معهم.
نفوذ معنوي
كما أن القرب الجغرافي لمالي من البلدان المغاربية يجعل هذه البلدان ترقب بحذر تحركات الجماعات التكفيرية هناك خاصة بعد أن تسللت مجموعة إرهابية من مالي إلى تونس عبر الصحراء الجزائرية بعد الإطاحة بنظام بن علي وذلك لاستطلاع الأوضاع ظنا منهم أن الخضراء انهارت وبات اختراقها ممكنًا وعبرها يمكن الوصول إلى مياه المتوسط. لكن الجيش التونسي لقن هذه الجماعات درسًا لا ينسى بعد أن أصابت الصدمة عموم التونسيين الذين أدركوا فعليًا أنهم جزء من إفريقيا وأن مالي التي لا يعرفونها إلا حين يتبارى منتخبها لكرة القدم مع المنتخب التونسي هي أقرب إليهم من حبل الوريد وتؤثر في أمنهم واستقرارهم.
ولا يخفى على عاقل النفوذ المعنوي الذي للماليين من أصحاب البشرة الداكنة على دول غرب إفريقيا المطلة على المحيط الأطلسي سواء من خلال التاريخ أو من خلال الدين والمعتقد. فأغلب الممالك والحضارات التي قامت هناك كان مركزها في مالي التي وحدت شعوب ما تسمى اليوم ساحل العاج والسينغال وغانا وغينيا والتوغو وغيرها في أمة واحدة يتبع مسلموها الطرق الصوفية التي لها في مالي أقطاب ومراجع.
عملية برخان
فلم يكن صدفة أن تتخذ فرنسا من مالي قاعدة لعملية برخان التي ترفع شعار محاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء لكن هدفها الرئيسي هو حماية باريس لمصالحها في هذه المنطقة من العالم مستغلة سلطة باماكو الهشة الراغبة بحماية الفرنسيين، ومستغلة أيضا بعض الرؤساء الأفارقة الطيعين لباريس على غرار الرئيس السابق لتشاد إدريس ديبي الذي اغتيل في ظروف غامضة. كما لم يكن صدفة أن يتزامن إعلان فرنسا عن إنهاء عملية برخان مع انقلاب عسكري في مالي قاده الجنرال هاشمي غويتا وبدا كأن باريس باركت هذا الانقلاب لضمان ولاء الجيش المالي المتعطش إلى السلطة قبيل مغادرتها الأراضي المالية.
إن فرنسا أكثر من يدرك أن الجيش المالي أعجز من أن يحفظ وحدة الأراضي في بلاده خاصة بعد وصول كميات هامة من السلاح خلال العشرية الماضية إلى الحركات الانفصالية للطوارق في الشمال وذلك من مخازن السلاح الليبي التي فتحها القذافي قبيل اغتياله، وقد تمكنت هذه الحركات فعلا من دحر الجيش المالي عن أزواد وإعلانها دولة مستقلة سنة 2012. كما أن الجماعات التكفيرية المالية أثبتت أنها قادرة على الوصول إلى العاصمة المالية واحتلالها بعد أن احتلت مدنا أخرى في نفس السنة.
غموض كبير
فهل أن فرنسا بإعلانها إنهاء عملية برخان تهدف إلى الضغط على الجيش المالي والحكام العسكريين الإنقلابيين لتقديم مزيد من التنازلات لباريس لتضع يدها أكثر فأكثر على البلاد وتهيمن بالكامل على ثرواتها، أم أنها تهدف لجلب الدعم من المجتمع الدولي لعمليتها في مالي ومنطقة الساحل والصحراء خاصة مع إبداء الولايات المتحدة لانزعاجها من إمكانية رحيل القوات الفرنسية عن مالي؟ ما الذي سيحصل في ذلك الركن المنسي من العالم رغم أهميته في غياب خطة جدية من الأمم المتحدة التي باتت قواتها في مالي لحفظ السلام هدفا للعمليات الإرهابية؟
أسئلة عديدة تطرح في هذا المجال مع الغموض الذي يكتنف التحركات الأخيرة للجيش المالي وللفرنسيين ولأطراف أخرى فاعلة في المشهد المالي. ويشعر العديد من العواصم في الإقليم وخارجه بقلق كبير إزاء ما يحصل في هذا البلد المحوري الذي يعتبره البعض مفتاح الاستقرار في البلاد المغاربية وغرب إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء.
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024