آراء وتحليلات
حروب الدرونز الاميركية الأبدية (2): العين على افريقيا
د. علي دربج - باحث ومحاضر جامعي
رغم أنها تحظى باهتمام عام أقل بكثير من "ملعب الشرق الأوسط" المفضل لدى الجيش الأمريكي منذ فترة طويلة، إلا أن إفريقيا تحتل مكانة بارزة في أذهان أولئك الموجودين في البنتاغون ومبنى "الكابيتول" ـ الكونغرس، ومراكز الفكر المؤثرة في واشنطن.
بالنسبة للصقور المتدخلين، بما في ذلك الليبراليون، كانت تلك القارة بمثابة طبق بتري (وعاء مسطح دائري الشكل وشفاف، يصنع من الزجاج أو من اللدائن، ويستعمل من قبل علماء الأحياء لزراعة الخلايا) وأرضية خصبة، للتثبت من تطوير نموذج محدود لإبراز القوة الامريكية سواء باستخدام عناصر العمليات الخاصة، أو المستشارين العسكريين، والوكلاء المحليين، والبعثات الاستخباراتية السرية. أما الوسيلة الأهم فكانت، وتبقى، الطائرات من دون طيار المسلحة والفتاكة.
لثماني سنوات من إدارة الرئيس باراك أوباما، وفي منطقة ممتدة من ليبيا إلى منطقة الساحل في غرب إفريقيا إلى القرن الأفريقي، ثم خلال سنوات الرئيس دونالد ترامب، وحتى مع ادارة الرئيس جو بايدن، فإن القلق الذي تروج له القيادة الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) بشأن ولادة "داعش" من جديد، وانتشار الجماعات الأخرى المرتبطة بالقاعدة هناك، لا يزال يسيطر على عقول المسؤولين، مدعومًا بالهراء المثير للخوف الذي يتنكر بزي معلومات متطورة من "مركز مكافحة الإرهاب" في ويست بوينت، ووعود البنتاغون الدائمة بفرص منخفضة المخاطر وعالية المكاسب في القارة.
لذلك، قد يضع رجل المراهنة المحنك أوراقًا على تصعيد بايدن في منطقة الساحل بغرب إفريقيا والقرن الشرقي، حتى لو كان ذلك لأسباب مختلفة. من هنا يمكن القول: ابقِ عينك على افريقيا.
أدت ما تسمى بالحرب الأمريكية على الإرهاب، والاستعمار الفرنسي الجديد، إلى تأجيج حركات "المقاومة الإقليمية"، وزيادة العنف، وإضفاء "صدى إسلامي" على المظالم المحلية في الآونة الأخيرة. ولا يمكن ابراء ساحة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية في عهد الرئيس باراك أوباما، وصبيها المفضل آنذاك مستشار الأمن القومي الوافد جيك سوليفان من هذه المسؤولية، فهما أسسا التحالف الحالي "للجهاديين" في مالي والنيجر.
ولمزيد من التوضيح، عندما دافع الاثنان (كلينتون وسوليفان) عن تدخل ثقيل لتغيير نظام معمر القذافي في عام 2011 في ليبيا، عاد الآلاف من مقاتليه الطوارق إلى تلك المنطقة بشكل كبير بأكثر من مجرد الملابس على ظهورهم. تدفقوا من ليبيا ما بعد القذافي، إلى أوطانهم في الساحل محملين بالسلاح والغضب. بعبارة أخرى، ليس من قبيل المصادفة أن الجولة الأخيرة من التمرد في مالي، انطلقت في عام 2012. الآن، قد يدفع جيك سوليفان، مستشار الرئيس الأمريكي جو بايدن للأمن القومي، الرئيس الجديد بايدن لمحاولة تنظيف الفوضى القديمة في القارة الافريقية، استكمالا لحروب امريكا الابدية، والتي تعتمد في هذه المرحلة على طائرات من دون طيار جاثمة في المطارات والقواعد السرية والعلنية الموزعة بين دول افريقية عدة.
ما هي نقاط تمركز قواعد هذه الطائرات (الحالية والسابقة) في افريقيا؟
مع تخفيض وزارة الحرب الأمريكية منذ عقود وجودها في أفغانستان، واغلاقها لاحقًا قواعد عسكرية في جميع أنحاء أوروبا، وتزايد خطر الإرهاب في شرق إفريقيا، كان من السهل على واشنطن أن تعمد الى تراكم هادئ لمنشآتها العسكرية في هذا الجزء من العالم.
البداية من جيبوتي:
يقع مركز القيادة الأساسي لفرقة عمل الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR)، التي تقوم بعمليات مكافحة الإرهاب في شرق إفريقيا، في الموقع السابق للجيش الفرنسي في معسكر "Lemonnier" في جيبوتي ـ هي دولة أفريقية صغيرة تقع بين إثيوبيا وإريتريا والصومال وخليج عدن ـ ويتمركز فيه حوالي 4000 من أفراد الخدمة والمدنيين الأمريكيين.
ونظرًا لموقعه الاستراتيجي، كان Lemonnier بمثابة مركز لإطلاق العمليات من القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في جميع أنحاء المنطقة، استخدم في عمله أيضًا منصة بحرية لطائرات من دون طيار، وجهاز مراقبة متمركزًا في بحر العرب.
ضمت القاعدة في معسكر Lemonnier أكثر من اثنتي عشرة طائرة من دون طيار مسلحة وطائرة مراقبة إضافية (ربما زاد العدد هذه الايام مع تكثيف النشاط العسكري الامريكي في افريقيا). واشتملت على ثماني طائرات حربية مأهولة من طراز F-15E، والتي يمكن أن تحمل ما يسمى القاذفات المحصنة ـ قنابل موجهة بالليزر تزن 5000 رطل.
ننتقل الى الجارة الصومال:
اتخذ التواجد الأمريكي في هذا البلد، شكل أنشطة استخباراتية وعمليات خاصة مكثفة، فضلاً عن برامج المساعدة العسكرية التي نمت بشكل كبير في السنوات الأخيرة، دون الكثير من النقاش العام أو إشراف الكونغرس.
في الصومال لجأت واشنطن إلى قواعد لعب مختلفة متجنبة نشر قوات كبيرة، فعززت الجواسيس وغارات العمليات الخاصة وضربات الطائرات من دون طيار.
في أواخر عهده، أمر الرئيس دونالد ترامب بسحب القوات الأمريكية -الفاشلة منذ فترة طويلة وبلا هدف- من الصومال، وإرسال معظم هؤلاء الجنود إلى الدول المجاورة. والآن، هناك شكوك في أن يعمد بايدن الى اعادة النظر بقرار ترامب، ويضاعف بالتالي الحضور الأمريكي في المنطقة، بإضافة جنود ومشغلين خاصين وطائرات من دون طيار، خصوصًا وأن البنتاغون حتى الآن، يقرع الطبول حول "جماعة الشباب الإسلامية" الصومالية، والتي يعتبرها أكبر تهديد لأميركا.
على الدوام ـ حتى مع ترسيخها بقوة في المنطقة ـ أنكرت الحكومة الأمريكية لسنوات نشر قوات على الأرض في الصومال، حيث أدت كارثة "بلاك هوك داون" سيئة السمعة في عام 1993 إلى نزوح أمريكي من المنطقة.
لكن في حزيران/ يونيو 2014، أقرت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية ويندي شيرمان أن "مجموعة صغيرة من الأفراد العسكريين الأمريكيين" كانت تعمل داخل الصومال "لعدة سنوات". ونقلت وكالة "رويترز" في وقت لاحق عن مسؤول لم تذكر اسمه في إدارة الرئيس باراك أوباما، قوله إن هناك ما يصل إلى 120 فردًا أمريكيًا متمركزين داخل البلاد.
ورغم أن الكثير مما يفعله الجيش الأمريكي في الصومال لا يزال تكتنفه السرية، الا أنه من الواضح أن الأمريكيين يفعلون أكثر من مجرد جمع المعلومات الاستخباراتية ودعم القوات الأفريقية.
من اللحظة الاولى طبعت السرية التواجد الأمريكي في هذا البلد. حتى أن عددًا ضئيلًا جدًا من الأميركيين يعرفون أن حوالي 800-500 جندي أمريكي يتمركزون في الصومال هذه الأيام. وعلى الأرجح إن قليلًا جدًّا من الاميركيين أيضًا يعرفون عن مقتل ثلاثة أميركيين في كينيا المجاورة في منتصف العام 2020، عندما كادت "حركة الشباب الصومالية" أن تتجاوز قاعدة جوية كانت تؤوي بعض القوات الأمريكية.
من الناحية الجغرافية، يتركز الوجود الأمريكي بالتحديد، في مدينة ساحلية جنوب الصومال، تمتاز بموقع استراتيجي، وتدعى "كيسمايو"، وفيها توجد قاعدة سرية أمريكية، وهي واحدة من عدة مواقع داخل الصومال، حيث أقامت قوات العمليات الخاصة الأمريكية بعيدًا عن أعين "المتطفلين" من الجمهور الصومالي، والأمريكيين الذين يتحملون فاتورة تمويل حروب امريكا الابدية.
ليس هذا فسحب، تكشف مصادر في الحكومة الصومالية عن وجود خلية أمريكية سرية ثانية في "بيدوغلي"، وهي موقع قاعدة جوية مهجورة تعود إلى حقبة الحرب الباردة في منطقة "شبيلي السفلى". قدرت هذه المصادر أن ما بين 30 إلى 40 فردًا أمريكيًا يتمركزون هناك، ويقومون أيضًا بعمليات لمكافحة الإرهاب تشمل طائرات من بدون طيار.
واذا راجعنا الاحصاءات العامة لعمليات الطائرات من دون طيار في الصومال، لوجدنا زيادة كبيرة في الضربات الجوية في عهد ترامب، أكثر بعدة أضعاف مما كانت عليه في رئاسة أوباما. من عام 2009 إلى عام 2016، أعلنت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا (أفريكوم) عن 36 غارة جوية في الصومال. في عهد ترامب، نفذت ما لا يقل عن 63 غارة جوية خلال عام واحد فقط، مع 39 هجومًا آخر من هذا القبيل في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2020. وبالنسبة لإدارة بايدن، ومنذ توليه الرئاسة، سجل توجيه ضربتين فقط لطائرات دون طيار، استهدفت ما يسمى بـ"جماعات جهادية".
كان الهدف الظاهري للولايات المتحدة عادة هو جماعة "الشباب الإسلامية المتمردة"، ولكن في كثير من الأحيان كان الهدف الحقيقي مدنيين صوماليين محاصرين منذ فترة طويلة.
لنحتكم الى لغة الأرقام:
وفقًا لـ Airwars، وهي مجموعة مراقبة الضربات الجوية ومقرها المملكة المتحدة، فإن الوفيات من المدنيين - رغم أنها منخفضة مقارنة بحملات القصف الأخرى في العراق أو أفغانستان أو سوريا ــ قد تتجاوز تقديرات البنتاغون الرسمية بما يصل إلى 6800 بالمائة. لكن ما خفي أعظم، إذ فرّ عشرات الآلاف من الصوماليين من مناطق تقصفها الولايات المتحدة بانتظام، متسللين إلى مخيمات اللاجئين المكتظة بالفعل خارج العاصمة مقديشو.
إضافة الى جيبوتي والصومال، أنشأ الجيش الأمريكي بؤرًا استيطانية أصغر في إثيوبيا (سابقا) وكينيا (لم يعرف مكانها)، وفي "سيشيل" (ما زالت قائمة)، وهي أرخبيل استوائي يقع على بعد 800 ميل تقريبًا من الساحل الصومالي.
ففي "سيشل"، هذه الجنة الاستوائية في المحيط الهندي، أدى نشر الجيش الأمريكي طائرات MQ-9 Reaper من دون طيار، إلى تحقيق عائدات بقيمة 3.1 مليون دولار للشركات المحلية خلال الأشهر الأربعة الأولى من عملياتها، وفقًا لبرقية دبلوماسية أمريكية غير مصنفة مدفونة في قاعدة بيانات حصلت "ويكيليكس" عليها ضمن برقيات وزارة الخارجية.
أما بالنسبة لاثيوبيا، فعند الاطلاع على تاريخ العلاقة الامريكية ـ الاثيوبية، نجد أن هذه الدولة قد وضعت أراضيها تحت تصرف القوات الجوية الامريكية التي كانت تحلق سرًا بطائرات مسيرة مسلحة من طراز "ريبر" في مهام لمكافحة الإرهاب من مطار مدني بعيد في جنوب إثيوبيا، وذلك كجزء من حرب بالوكالة ضد فرع لـ"القاعدة" شرق إفريقيا.
استثمرت القوات الجوية الامريكية ملايين الدولارات لتحديث هذا المطار في منطقة تدعى "أربا مينش" في إثيوبيا، حيث قامت ببناء ملحق صغير لإيواء أسطول من الطائرات من دون طيار التي يمكن تزويدها بصواريخ "هيلفاير" والقنابل الموجهة بالأقمار الصناعية. غير أن هذه القاعدة أغلقتها الحكومة الاثيوبية منذ سنوات بعدما انكشف أمر الوجود الأمريكي في هذا البلد.
في المحصلة، تاريخيا، تعتبر التحولات في نموذج السياسة الخارجية الامريكية نادرة للغاية، لا سيما عندما تتجه نحو السلام. وعليه يبدو انكفاء امريكا عن حروبها الابدية شبه مستحيل. لذا لتستعد افريقيا لمزيد من الضربات الجوية بواسطة الطائرات المسيرة (الدرونز).
الحلقة الثالثة: طائرات الدرونز و"بطاقة البيسبول"
حروب الدرونز الأمريكية الأبدية (1): قتل أكثر من 17000 انسان منذ 2004
إقرأ المزيد في: آراء وتحليلات
21/11/2024
خطاب الأمين: قوةٌ وتمكين ونصرٌ وتطمين
19/11/2024