خاص العهد
"قروض" بلا رقابة.. والحل بالقانون
فاطمة سلامة
ذات مجلس وزراء عام 2010، وبينما كنا ننتظر كالمعتاد انتهاء جلسة مناقشة الموازنة وخروج وزير الاعلام لوضعنا بصورة النقاش، سُرّب لنا أنّ سجالاً شديداً وقع داخل الجلسة بين وزير الاتصالات آنذاك شربل نحاس ووزيرة المال ريا الحسن. السجال جاء على خلفية إحدى مواد مشروع الموازنة التي تتعلّق بالإجازة للحكومة بالاقتراض.
لم تحمل هذه المادة أي توضيح حول هذه العملية، ما جعلها مادة للسجال بين فريقين على طاولة الحكومة. أول يقوده نحاس وفريقه السياسي والحلفاء انتقد بشدّة تضمين الموازنة بنداً للاقتراض دون تحديده أو وضع سقف له. بنظرهم، لا بد أن تكون موازنة الحكومة شاملة لكل أوجه الإنفاق والايرادات بما فيها القروض والهبات، التزاماً بأحكام الدستور، وقانون المحاسبة العمومية. بمعنى آخر، لا يكفي أن تدرج الحكومة الاقتراض كعنوان عام دون تحديد آليات الاقتراض بدقة، وقيمة القرض المطلوب، هذا الأمر يتنافى مع كافة أشكال الشفاقية. واتجاه ثان يحاول "تمرير" القروض بطريقة اعتباطية، مع ما يحمله هذا النهج من "تشريع" لسياسة الفوضى، وما أدراك ما تحمل معها تلك المسماة "فوضى"؟!.
مؤخراً وخلال مناقشة موازنة عام 2019، خضعت قضية القروض للمزيد من الجدل على "شاكلة" التجاذب الذي حصل عام 2010، وإن اختلفت التفاصيل. وقد برزت وُجهتي نظر أيضاً. أولى تُشدّد على ضرورة إخضاع القروض لقانون المحاسبة العمومية، أي للرقابة المسبّقة وهو اتجاه أصرّ عليه حزب الله، وثانية تُعارض بشدة هذا الأمر، تحت ذريعة عرقلة الحصول على القروض. فما أهمية إخضاع القروض لقانون المحاسبة "العمومية"؟.
فضل الله
رئيس المركز "الاستشاري" للدراسات والتوثيق الدكتور عبدالحليم فضل الله يستهل حديثه بالتأكيد أن قانون المحاسبة العمومية والقانون الذي ينظّم عمل ديوان المحاسبة، ينص على أن تخضع كافة المعاملات إما للرقابة المسبّقة أو اللاحقة. وبحسب القانون فإنّ معظم الايرادات (بما فيها المنح والمساعدات)، النفقات، والصفقات إذا تجاوزت حدوداً معينة فإنها تخضع للرقابة المسبّقة. أما ما تبقى من معاملات مالية في الدولة تخضع للرقابة اللاحقة. ما الفرق بينهما؟. للمعاملات التي تخضع للرقابة المسبّقة خصوصية بحيث لا تنعقد النفقة الا بعد اتمامها ومرورها على ديوان المحاسبة للحصول على التأشيرة، بمعنى يُصبح الديوان المرجع الصالح للبت بها.
أما اللاحقة ـ وفق فضل الله ـ فهي تدخل ضمن الرقابة الشاملة على عمل الدولة بما يتعلّق بمطابقة عملية الصرف لما هو مرسوم والتثبت من سلامتها، وهي تضع تحت المجهر المعاملات التي تقوم بها الدولة في مجالات معينة.
ومما لا شك فيه أنّ اعتماد لبنان على القروض الخارجية لتمويل المشاريع ازداد بشكل مضطرد خلال السنوات الماضية. وانطلاقاً من هذا الواقع، يؤكّد فضل الله أنّ معظم المشاريع في لبنان باتت تمول بقروض خارجية، إذ أصبحت الاستدانة عنصراً أساسياً ضمن الأنشطة المالية التي تقوم بها الدولة، خصوصاً المشاريع والنفقات الاستثمارية. وهنا يوضح المتحدّث أنّ عدم إخضاع القروض للرقابة المسبّقة يحرّر الجهات التنفيذية من إدارة رقابية شديدة الأهمية. فهذا النوع من المشاريع تقوم به مؤسسات محدودة كمجلس الانماء والإعمار، ما يفتح المجال واسعاً للعمل بقاعدة "الصفقات بالتراضي".
ويلفت فضل الله الى أنّ "تحييد" القروض عن نظام الرقابة المسبّقة يفتح الباب واسعاً أمام الهدر، ما يُعرقل مهمّة ضبط النفقات، ويخفّض جودة العمل وكفاءته ويُشرع بشكل أو بآخر الفساد. إخضاع القروض لآلية قانون المحاسبة العمومية يساهم في التحقق من سلامة العمليات المالية لمنع الافراط في الانفاق ولمطابقة الواقع مع الهدف الذي من أجله تمت الاستدانة.
ويؤكد فضل الله أنه من العام 1993 شهدنا مخالفات واسعة سواء باستعمال الهبات والقروض أو ايرادات الدولة، ما فتح الابواب واسعا امام الهدر وسوء الأداء خصوصا في الفترة الاخيرة، حيث باتت أكثر مشاريعنا تعتمد على القروض الخارجية. ويرى المتحدث أن الحجج والذرائع التي يروج لها من يعارضون اخضاع القروض لقانون المحاسبة العمومية غير مقنعة كالادعاء مثلا ان الرقابة المسبقة تعرقل الحصول على القرض بسبب وجهة نظر المقرضين. برأي فضل الله، هذا الامر غير صحيح لأنه ومع عدم وجود هذا النوع من الرقابة لا يزال هناك 3 مليارات دولار أتاحهم البنك الدولي للبنان، ورغم ذلك لم يستفد منهم حتى الساعة.
نحاس: لآلية محددة
الوزير السابق شربل نحاس يستغرب الحجج التي تُساق لعدم إخضاع القروض لآلية محددة وواضحة. برأيه، فإنّ التذرع بأن هذه القروض يتم إقرارها على حدى بقانون قائم بذاته في مجلس النواب لا يُغني عن ضرورة إخضاعها للرقابة المسبقة. فما يزيد القلق ـ من وجهة نظره ـ أنّه وفي الكثير من الأحيان تُملي الجهة الدائنة شروطاً على الجهة المدينة، ما يضعنا في موقع "المتسولّين" ويُعطي من يتواصل مع الجهة الدائنة المجال لممارسة شتى صنوف "تربيح الجميلة" وكأنّ الدولة اللبنانية حصلت على القرض بالمجان.
نحاس الذي خاض معارك ومفاوضات عديدة في هذا السياق يشدّد على أنّ القروض هي جزء أساسي من الإنفاق العام ويجب أن تخضع لآلية قانونية واضحة، لا أن تجري الاستدانة وفق أسس غير دقيقة أو أن يجري "تهريب" القروض كما حصل سابقا سعيا وراء السرقة و"السمسرات".