طوفان الأقصى

نقاط على الحروف

"ترند ــ Trend" المستعربة.. دخيلة أخرى من بوابة المجامع اللغوية هذه المرة
30/09/2023

"ترند ــ Trend" المستعربة.. دخيلة أخرى من بوابة المجامع اللغوية هذه المرة

د. علي أكرم زعيتر

المجمع اللغوي، أيُّما مجمعٍ، هو مركز أو معهد أو مؤسسة يُعنى بعلوم اللغة. والمجامع اللغوية العربية هي مراكز أو مؤسسات أو معاهد تُعنى باللغة العربية وعلومها، ومن أشهرها: مجمع دمشق الذي أنشئ عام ١٩١٩، ومجمع القاهرة الذي أنشِئ عام ١٩٣٢، ومجمع عمان (الأردن)، ومجمع بغداد.

لمجامع اللغة العربية في الوطن العربي وظائف عديدة، من أهمها:

١_ المحافظة على اللغة العربية وصونها من لحن القول، وحمايتها من الاندثار والضياع، وصد المحاولات التي يقوم بها بعض المتغربين ثقافياً لإحلال اللغات الأجنبية محلها، أو إزاحتها عن المشهد اللغوي العام في البلدان العربية.

٢_ صون التراث العربي، والعمل على إعادة إحيائه بأسلوب عصري، قادر على مواكبة مقتضيات المرحلة.

٣_ مواكبة الاختراعات والابتكارات الجديدة، والمفردات العلمية المستحدثة في الخارج، والحرص على توفير مصطلحات ومرادفات عربية بديلة لها.

٤_ الحؤول دون تفشي المحكيات (العاميات) في أوساط الشباب العرب، والميل بهم ما أمكن إلى استعمال الفصحى.

وقد نجحت المجامع العربية على مدى تاريخها الممتد زهاء المئة عام في أداء المهام الملقاة على عاتقها على أتم وجه، وإن كنا لا ننكر وقوع بعض الإخفاقات بين الفترة والأخرى. فعندما طفت إلى السطح مصطلحات مثل "voiture" الفرنسية، و"car" الإنكليزية سارعت المجامع اللغوية العربية إلى إيجاد بدائل لها فكانت "السيارة"، ثم "الهاتف" عوضًا عن "Telephone"، و"الخليوي" أو "الجوال" عوضًا عن "cellulaire" و"mobile"، وهلمَّ جرًّا.

لم تتقاعس هذه المجامع يوماً عن أداء دورها فكانت تجهد لمواكبة كل جديد، ما حال دون تفشي الكثير من المصطلحات والمسميات الأجنبية الدخيلة على ألسنة العامة والطلاب والمثقفين، ولكن هذا لم يمنع بعض المفردات الأجنبية من أن تفلت من يديها، فكانت في كل مرة تفلت بعض التسميات الأجنبية تجد طريقها إلى ألسنة العامة، فيما يبقى المرادف العربي الذي ابتكره باحثو تلك المجامع حبيسَ جدرانها أو طيَّ سجلاتها، على غرار مصطلح "الحاسوب" الذي لم يستطع منافسة المصطلح الأجنبي "Computer"، فجرى تعريب الأخير كما هو "كمبيوتر"، حتى غدا شائع الاستعمال في مقالاتنا وكتبنا وعلى ألسنة النخبويين والعامة على حد سواء.

اليوم، ونحن نعيش في غمرة الفورة التكنولوجية، وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي برز أمام اللغة العربية ومجامعها المنتشرة في الوطن العربي تحديات عديدة، من أبرزها، ندرة صانعي المحتوى العربي على وسائل التواصل الأساسية مثل "youtube"، و"facebook"، مقابل وفرة صانعي المحتوى باللغات الأجنبية، لا سيما الإنكليزية، الأمر الذي جعل الناشطين العرب على وسائل التواصل يعتمدون بنسبة تفوق السبعين بالمئة على ما يقدمه صناع المحتوى الإنكليزي، وهو ما انعكس بدوره على سوق المصطلحات، حيث بات الطلب على المصطلحات التي وُضِعت بلغاتها الأصلية أكبر بكثير، مقابل تراجع الطلب على المصطلحات التي وضعتها المجامع اللغوية العربية باللغة العربية، أو حتى تلك المصطلحات المعرّبة.

من جملة تلك المصطلحات التي باتت رائجة في أوساطنا: "Trend" التي تعني "الاتجاه أو الشائع أو الرائج"، و"fans" التي تعني "المشجعين أو المعجبين"، و"Like" التي تعني "إعجاب"، و"tag" التي تعني "إشارة" وسواها الكثير.

أمام هذا السيل العارم من المصطلحات، والتي لم تستطع المجامع اللغوية على ما يبدو إيجاد بدائل لها، عمد مجمع القاهرة مؤخراً إلى تعريب مصطلح "ترند" ووضعه في سياق الاستعمال المعجمي، أي طرحه في "المعجم الوسيط" تحديداً، كمفردة معرّبة (أي كما وردت بصيغتها الأصلية ولكن بحروف عربية)، دون أن يكلف أعضاء المجمع أنفسهم عناء البحث عن ترجمة عربية للمصطلح.

وحجتهم في ذلك أن العرب قديمًاً لطالما أدخلوا مفردات أعجمية إلى لغتهم، وقد صنّفها علماء اللغة لاحقاً ضمن فئة الكلمات الدخيلة من قبيل "إستبرق" و"سُندُس"، التي وردت في القرآن الكريم، و"فلسفة"، و"ديباجة" فما المانع من أن يقحم العرب المعاصرون بعض المفردات الدخيلة في استعمالاتهم اليومية؟

لهؤلاء نقول، لم يُعنَ أسلافنا العرب بعلوم اللغة كما هو الحال اليوم، ولو كان متوفراً لهم ما هو متوفر لنا اليوم من تسهيلات ووسائل وأدوات لما تأخروا للحظة عن اجتراح بدائل لمصطلحات من قبيل فلسفة وديباجة وأخواتهما، فلماذا نُعدَمُ نحن الوسيلة، وقد بلغنا ما بلغنا من تطور وحداثة؟!

لكن كان خليقًا بمجمع القاهرة أن يجترح بديلاً عربياً لـ كلمة "ترند" بدلاً من إقحامها في معاجمنا اللغوية. بدا الأمر كأن لغتنا عاجزة عن توليف بدائل عربية للمفردات الأجنبية. إن من أهم مزايا لغة العرب، أنها قابلة للاشتقاق، وذلك بخلاف اللغات اللاتينية، فلماذا يزهد بها إلى هذا الحد، من يفترض بهم أن يكونوا حراسها؟ هل عقمت أرحام نساء العرب، فما عدنَ ينجبنَ كفؤاً للخليل بن أحمد الفراهيدي، أو ابن جني، أو سواهما؟!

ما عقمت نساء العرب، ولا أُعدِمَت لغتهم الوسيلة، ولكنْ تقاعَسَ أعلامُهم وتكاسَلَ لغويُّوهم، حتى استسهلوا النحت والتعريب، بدلاً من الاشتقاق والترجمة!

مر معنا، أن من بين المهام الملقاة على عاتق المجامع اللغوية العربية هو حفظ وصون اللغة من اللحن والضياع، فهل تعريب "ترند" يخدم هذا التوجه؟!

بالطبع لا، لا يحتاج الأمر إلى تفكير، فمجرد انتزاع مفردة من سياقها الأجنبي وإقحامها في سياقات لغة أخرى، هو اعتراف بعجز اللغة الأخرى، وهذا ما يجافي حقيقة اللغة العربية. فلغة الضاد من أغنى لغات الأرض سعةً وشموليةً، وهي تكاد تكون اللغة الوحيدة على وجه الأرض التي لم يطرأ عليها تغييرات جذرية تمس جوهرها، وذلك لكونها لغة الوحي المقدس لدى المسلمين، حيث أحيطت هذه اللغة بعناية العلماء المسلمين من ١٤٠٠ سنة، ما جعلها أشبه بالتحفة النادرة التي لم تتعرض لها يد الزمان بأي عبث، فلماذا يستسهل مجمع القاهرة النيل منها بهذه الطريقة المؤذية؟!

ما أقدم عليه مجمع القاهرة، يسمى في علم اللغة اقتراضاً، بمعنى أنه اقترض مصطلحاً أجنبياً وأعاره للناطقين بالعربية. والاقتراض في علم اللغة نوعان: اقتراض ضرورة واقتراض ترف. في حالة مجمع القاهرة، لا خلاف على أن ما قام به هو اقتراض ترف لا ضرورة، لأنه كان بمقدوره أن يولد من اللغة العربية اشتقاقاً أو لفظاً، لكنه أبى ذلك لدواعٍ لا تخفى على أحد، قد يكون أبرزها التقاعس والكسل، وانخفاض مستوى الغيرة على اللغة العربية لدى أعضائه.

قد لا يكون مناسباً محاكمة أعضاء المجمع على النوايا. ولكن مما لا شك فيه أن ما أقدموا عليه لا يصب في مصلحة اللغة العربية بأي حال من الأحوال. قد تكون فعلتهم الأخيرة بمثابة سابقة خطيرة ستجر غيرها في القادمات من الأيام، أو لعلها تفتح الباب أمام أنصار ودعاة العامية لكي يطرحوا على حراس لغة الضاد الإشكال الآتي: حلالٌ على اللغة الإنكليزية استعارة عدد من الألفاظ منها، وحرام على المحكيات العربية استعارة بعض ألفاظها. ولا يغيب عن بال أحد خطورة مثل هكذا طرح، نظراً لما ينطوي عليه من نوايا خبيثة حيال العربية القياسية أو المعيارية (الفصحى).

إن الهجمة التي تتعرض لها اللغة العربية منذ نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين لا تخفى على أحد، فما بال أساتذتنا في مجمع القاهرة لا يعيرون لمثل هذه التهديدات اهتماماً؟ هل أصيبوا بالإحباط؟ أم أن جرعات المورفين التي يتلقونها أكبر بكثير من أن يصحوا على واقع اللغة العربية المليء بالخيبات والنكسات؟! نأمل أن نسمع جواباً مقنعاً منهم!

في مصر، كما في لبنان، كما في العراق والدول المغاربية، خرج قديماً وحديثاً من يطالب بإزاحة العربية الفصحى من مناهج التعليم وإحلال المحكيات محلها، من أمثال سعيد عقل وأنيس فريحة وإسكندر المعلوف الذي اعتبر أن الفصحى هي سبب تخلف العرب، وفرانك سلامة في لبنان، وسلامة موسى، ولويس عوض في مصر.

هؤلاء ومن لا يزال يسير على نهجهم في وقتنا الراهن، يلقون باللائمة على الفصحى، زعماً منهم أنها سبب تخلف العرب، فيما الحقيقة تقول إن العرب حينما تمسكوا بالفصحى واستعملوها في ميادين حياتهم اليومية بلغوا الخافقين، ودانت لهم القارات الخمس، وحينما تخلوا عنها أدارت لهم الحضارة ظهرها. فهل يعي أساتذتنا في مجمع القاهرة خطورة الخطوة التي أقدموا عليها، أم تُراهم يتمترسون خلف حجة الحداثة ومواكبة روح العصر، كما سبقهم إلى ذلك آخرون؟

اللغة العربيةالثقافةالعالم العربي

إقرأ المزيد في: نقاط على الحروف

التغطية الإخبارية



 

مقالات مرتبطة