نقاط على الحروف
تشهد الساحتان السياسية والإعلامية في لبنان في هذه المرحلة زحمة تقديرات ومواقف تُصاغ كمقدّمات نظرية لفتح الباب أمام مفاوضات مباشرة مع العدوّ "الإسرائيلي". ورغم أن هذه الطروحات تُقدَّم كأنها نقاشات واقعية تبحث عن حلول ممكنة، إلا أنها في جوهرها تحمل سلسلة من المغالطات والمخاتلات المفاهيمية التي تهدف إلى إعادة تشكيل الوعي العام، وحصار المقاومة وأهلها، وخلق بيئة نفسية وسياسية تسمح بتمرير خيارات أثبتت التجارب أنها لا تقود إلا إلى تنازلات إضافية، فيما العدوّ يحصد كلّ ما يطمح إليه ثمّ يعود للمطالبة بالمزيد.
إحدى أهم هذه المغالطات هي تصوير المقاومة كأنها هي التي تهدّد بالحرب أو تدفع إليها، في حين أن تاريخ الصراع كلّه يُظهر بوضوح أن العدوّ كان دائمًا هو المبادر إلى العدوان، إمّا ابتداءً أو استغلالًا لظرف سياسي أو ميداني يراه مناسبًا. ومن هنا تصبح الحجة القائلة إن “لبنان ضعيف ولا يحتمل الحرب” حجة في غير موقعها؛ لأن ضعف لبنان -وهو ضعف تكويني ومعروف- لا يقود إلى التخلي عن عناصر القوّة، بل إلى الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى. فالبلد الذي يدرك هشاشته يفترض أن يتمسّك بكلّ نقطة قوّة يمتلكها، لا أن يفرّط بها بحجّة البحث عن حلول سهلة أو الانخراط في موجات تسوية إقليمية لا تعنيه إلا بوصفه الحلقة الأضعف المرشحة لدفع الثمن الأكبر.
إن الإشكالية ليست في الحرب باعتبارها خيارًا للمقاومة، لأن التجربة نفسها تثبت أن المقاومة لم تخض حربًا واحدة بوصفها قرارًا ابتدائيًا، لا في فترة الاحتلال لما سُمي بـ “الحزام الأمني”، ولا بعده. العدوّ هو الذي كان يردّ على المقاومة بالحرب حين كان يسعى لقمعها أو لإعادة تثبيت احتلاله. وبالتالي فإن السؤال الحقيقي ليس “لماذا تمتلك المقاومة سلاحها؟” بل “ماذا سيفعل لبنان حين يقرر العدوّ شنّ حرب عليه؟ وماذا لو حاول تجريد لبنان من عناصر قوته؟ وهل يكون الرد هو الاستسلام؟ وإن حال ظرف سياسي اليوم دون سيناريوهات معينة، فما الذي يمنع أن تتغير الظروف غدًا فيبادر العدوّ إلى استغلالها؟”. إن لبنان يعيش في بيئة إقليمية سريعة التقلّب، وتكفي نظرة خاطفة إلى العقود الماضية لرؤية حجم المتغيرات التي كان كلّ واحد منها يحمل تداعيات خطيرة على لبنان.
المدخل الصحيح لفهم الأزمة اللبنانية ليس في حجب منبع المخاطر ولا في معالجات سطحية، بل في توصيف مصدر التهديد بشكل واضح. وأي محاولة لحجب حقيقة أن العدوّ "الإسرائيلي" هو مصدر الخطر الوجودي على لبنان يعني أننا نسلك طريقًا لن يؤدي إلا إلى مزيد من الانهيارات. فالنقاش الدائر حول “حل مشكلة لبنان” يتجاهل حقيقة بسيطة: لا يمكن أن يكون الحل مبنيًّا على تجاهل البيئة الأمنية التي يعيش فيها البلد، ولا على إسقاط عناصر القوّة التي منعت احتلاله، ولا على افتراض ضمانات دولية بات من المؤكد أنها لا تحمي أحدًا. والتجربة الفلسطينية، خصوصًا في غزّة، ما زالت شاخصة أمامنا لتذكّر كلّ مَن ينسى أن المؤسسات الدولية والعواصم الغربية ليست مظلة حماية، بل أدوات إدارة للصراع وفق مصالحها هي.
إن الاندفاعة نحو المفاوضات المباشرة، وما يرافقها من شعارات سياسية وإعلامية، ليست إلا محاولة لخلق بيئة سياسية ونفسية تُبرّر الدخول في مسار يُراد له أن يضفي شرعية على وجود العدوّ ويسعى إلى دمجه كعنصر طبيعي في المنطقة. وإلا، فلبنان خاض مفاوضات غير مباشرة مرارًا من دون الحاجة إلى هذا الإنتاج الكبير من التمهيدات والشعارات. لذلك يصبح من الواضح أن المشكلة ليست تقنية التفاوض بل الوجهة السياسية التي يجري التمهيد لها.
ورغم كثافة السرديات المطروحة، تبقى مجموعة حقائق ثابتة يجري تجاهلها بشكل مقصود: أن للعدو أطماعًا توسعية موثقة في لبنان، وأن لبنان يعاني من هشاشة تكوينية تجعله سريع التأثر بالمتغيرات، ما يفرض تعزيز عناصر قوته لا تفكيكها، وأن المقاومة أثبتت أنها الضمانة الوحيدة التي منعت الاحتلال وفرضت على العدوّ كلفة جعلته يعيد حساباته، وأن القوى الدولية ليست ضامنة لمستقبل لبنان، وقد أظهرت الأحداث الأخيرة في غزّة والضفّة أن المجتمع الدولي لا يحرّك ساكنًا إلا وفق ميزان المصالح والضغوط، وليس وفق معايير العدالة أو الأمن الإنساني.
من هنا، فإن أي تحليل واقعي للمرحلة الراهنة يقود إلى استنتاج واضح: إن الحفاظ على لبنان لا يكون بتقليص عناصر القوّة، بل بتنظيمها وتعزيزها. فالدولة التي تفقد قدرتها على ردع عدوها تتحوّل تلقائيًا إلى ساحة مفتوحة على التدخلات والابتزازات. والعقل السياسي لا يقاس بالقدرة على صياغة شعارات “عقلانية” بل بالقدرة على قراءة الواقع كما هو، لا كما يتمنى البعض أن يكون. والخلل الأكبر في الخطاب السياسي والإعلامي الحالي أنه يتجاهل التهديد "الإسرائيلي" الوجودي للبنان، وأنه يمكن أن يستغل أي متغير سياسي إقليمي أو محلي أو دولي لتحقيق أطماعه التوسعية. والى ذلك الحين يسعى إلى أن يخضعه تحت هيمنته التامة.
إن خلاصات هذا التحليل تؤكد أن حماية لبنان لا تكون بإضعاف عناصر قوته ولا بإعادة إدماج العدوّ في معادلات الداخل، بل بتثبيت القدرة على منع العدوّ من فرض خياراته عليه. فالأمن الوطني لا يُصان بالأوهام ولا بالتسويات غير المتكافئة، بل بموازين القوّة التي تمنع الانهيار وتقطع الطريق على العدوان. وكلّ ما يعزّز هذه القدرة هو حماية للبنان، وكلّ ما يضعفها هو خطوة إضافية في مسار الهاوية.